أنانية أوباما بين كوبا وسوريا
ما أن انتخب باراك حسين أوباما رئيساً للولايات المتحدة، وبينما كانت حقائبه ما زالت على عتبة البيت الأبيض هبطت عليه جائزة نوبل للسلام «من حيث لا يدري» قبل أن يقوم بأي خطوة أو يكشف عن أية سياسة أو يقوم بأي خطوة تبرر هذه الجائزة. صحف كثيرة وكتاب عديدون انتقدوا هذه «الهدية» وربطها بلون بشرة أول رئيس أميركي.
كنت من الذين انتقدوا هذا التكريم لرئيس أكبر قوة في العالم في بداية ولايته: نوبل للسلام لرئيس دولة تستعمل القوة في كل مجال وكل مكان وكل زمان.
وقد أعمى «خطاب القاهرة» جميع المصفقين العرب الذين نظروا أيضاً إلى لون جلدته وإلى كامل كنيته في جواز سفره «باراك حسين أوباما»، معتقدين أن «الشاب» سيرمي اسرائيل جانباً ويفتح أبواب فلسطين للفلسطينيين. وقد خيب آمال العرب أوباما عند أول تصويت على مشروع قرار «اعتبار المستعمرات مخالفة للقانون الدولي» فوضعت أميركا فيتو لحماية اسرائيل لتضيف فيتو على لائحة طويلة من مظلة الفيتو التي تنشرها واشنطن فوق رأس الدولة العبرية. فيتو أميركي كخطوة أولى لأوباما في السياسة الشرق أوسطية رغم أن مشروع القرار الفرنسي الأصل، لا يذكر اسرائيل ولا فلسطين ولا يستعمل باللغة العربية (وهي إحدى لغات مجلس الأمن) تعبير «مستوطنات» بل تعبير «مستعمرات» على أمل أن يمر المشروع على أساس أنه مشروع يدعم القانون الدولي من حيث المبدأ فقط. قد وصف عديد من المعلقين هذا الفيتو بأنه «فيتو غبي» واعبر البعض بأن هذا الفيتو من عناصر اشعال الربيع العربي في بداية انطلاقتها.
أعلن أوباما عن رغبته بإغلاق معتقل غوانتانامو لم يفعل حتى الآن. أعلن الانسحاب من افغانستان وهكذا كان وإن كان الانسحاب شكلي حتى الآن. أعلن أوباما قراره بـ«عدم العودة إلى العراق» وها هو يعود عبر مستشارين تزداد أعدادهم يومياً.
قرر عدم التدخل في ليبيا ولكنه ساعد بريطانيا وفرنسا بتدمير الدفاع الجوي الليبي قبل أن تبدأ القاذفات الفرنسية والبريطانية عملها ثم فتح أبواب مخازن قنابله عندما «فرغت» مخازن أوروبا العجوز بعد اسبوع من القصف.
أعلن منذ وصوله إلى البيت الأبيض أنه لن يتدخل عسكرياً في أفريقيا ولكن، وبهدوء بلغ عدد الجنود الأميركيين العاملين في الساحل الأفريقيا بين النيجر ومالي والحدود الجزائرية والمغربية ما يزيد عن ٥٠ ألف جندي يطلق عليهم «أفريكا كورب» إلى جانبأكبر محطة تنصت في العالم تغطي كامل أفريقيا، في حين أن القوات الفرنسية التي يطبل ويزمر لها الإعلام لا يتجاوز عددها في ٤ بلدان أفريقية ٣٠٠٠ جندي و١٢ طائرة.
أعلن أوباما «استعمال الكيميائي خط أحمر» فصفق له الجميع، ولكنه لم يوجه طائراته إلى سماء سوريا وعرّى حلفاءه وخصوصاً فرنسا التي جهزت طائراتها قبل أن تعيدها إلى مرائبها بغياب «الأخ الأكبر». أعلن أوباما تحالفا عربياً غربياً لضرب داعش ولكنه ترك قافلة من ٢٨٠ سيارة رباعية الدفع كي تنطلق من الرقة إلى تدمر وتقطع مسافة تزيد عن ٣٠٠ كلم في صحراء مكشوفة دون أن تحلق فوقها طائرة واحدة ولا أن يلتقط أثرها قمر تجسس …كما يحصل في الأفلام الهوليودية.
هذا بعض من فيض ما «أعلنه» أوباما وما آل إليه الإعلان.
يدل هذا إن لزم الأمر على أن أوباما لا ينظر إلا إلى … أوباما. كل ما فعله ويفعله وأمر به ويأمر به موجه لحفظ صورته في كتاب التاريخ. يريد أن يكون «الرئيس الأميركي الذي لم يشن أية حرب»؟ ولكن الجيوش الأميركية متواجدة في كل بقعة من بقاع الأرض تقصف وتدمر (سوريا والعراق وليبيا وأفغانستان واليمن والصومال والساحل الأفريقي) القوات المسلحة تتواجد على كافة «الجبهات الباردة والتي يمكن أن تتحول إلى ساخنة» (بولندا وأوكرانيا والبلطيق وتايوان وكوريا الجنوبية وجنوب بحر الصين) المساعدات العسكرية الأميركية لحروب قائمة ونزاعات دامية لا تعد ولا تحصى (اسرائيل في فلسطين والسعودية في اليمن وكولومبيا في أميركا اللاتينية إلخ…).
ولكن يحصل كل هذا بغياب التناول الإعلامي المباشر. صورة أوباما في الإعلام ولدى الرأي العام الأميركي والعالمي تفيد أنه «رئيس جبان» ولكنه لا يعطي أي اعتبار لما قيل ويقال عنه فهو ينظر فقط إلى التاريخ فهو يدرك أنه في العقد الخامس والطريق ممهدة أمامه لصقل صورته في كتب التاريخ تلك الصورة المبنية على «ظواهر الأعلام» وليس على «بواطن الأحداث».
الآلة الأميركية تعمل من دون كلل على بث عوامل قوة متزايدة في موقع الولايات المتحدة وأوباما لم يحاول يوماً ما تغير هذا الواقع (إذا كان من المستطاع إلى ذلك سبيلاً) ولكنه كيّفَ صورته كرئيس ضعيف مع الظاهر من مكامن القوة.
يحدث هذا اليوم في كوبا: أول رئيس أميركي يطأ الأرض الكوبية هذا سيدخل في كتب التاريخ… ولكن ماذا تغير في الأمر؟
الشرطة الكوبية مثل كل اسبوع اعتقلت المحتجين الذين يجتمعون أمام كنيسة في وسط العاصمة كل يوم أحد، كممت أفواه مجموعة «نساء في الثياب البيضاء» التي أسستها زوجات سجناء سياسيين، وتصر السلطات الكوبية على أن «السياسات الداخلية غير قابلة للنقاش» وهو عكس ما يقوله أوباما للإعلام الأميركي الذي يرافقه.
في المقابل أعلن أوباما الرئيس عدة قرارات لتخفيف الحظر الأمريكي المفروض على كوبا منذ ١٩٦٢، وصفق له العالم ولكنه لم يقل علنا إن «الأمر يعود للكونغرس» أي أن الحظر ما زال مفروضاً….
بالتأكيد سيشكل خطاب أوباما الثلاثاء في مسرح هافانا الكبير لحظة الذروة في الزيارة ولكن النتائج لن تكون إيجابية إلا لصورة أوباما في التاريح وهو يدوس الأرض الكوبية إلى جانب زوجته وابنتاه. أما الواقع الحياتي للكوبيين فلن يتغير… إنه أوباما الأناني.