تركيا: هكذا فشل الانقلاب
خاضت قوات موالية للحكومة التركية معركة أمس السبت تمكنت فيها بدرجة كبيرة من سحق ما تبقى من محاولة انقلاب عسكري فشلت بعد أن لبت الجماهير دعوة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان للنزول للشوارع وتخلى عشرات من المتمردين عن دباباتهم.
وقال وزير الدفاع التركي فكري إيشيك إنه تم دحر الانقلاب العسكري ولا توجد منطقة خارج نطاق سيطرة الحكومة. لكن إيشيك قال للصحفيين إن من السابق لأوانه القول بأن خطر الانقلاب تلاشى تماما وحث أنصار الحكومة على الخروج إلى الشوارع مجددا.
وقتل 161 شخصا بينهم الكثير من المدنيين وأصيب 1440 في أعمال العنف التي اندلعت في وقت متأخر يوم الجمعة بعد أن حاول قطاع من القوات المسلحة السيطرة على السلطة باستخدام الدبابات وطائرات الهليكوبتر الهجومية التي هاجم بعضها مقر المخابرات التركية والبرلمان في أنقرة بينما سيطر البعض الآخر على جسر مهم في اسطنبول.
هزت انفجارات وأصوات إطلاق النار اسطنبول والعاصمة أنقرة في ليلة اتسمت بالفوضى بعد أن سيطر جنود على مواقع في المدينتين وأمروا التلفزيون الحكومي بتلاوة بيان أعلنوا فيه السيطرة على السلطة. لكن بحلول الفجر تراجعت أصداء المعارك بشكل كبير.
واستسلم نحو 50 جنديا شاركوا في الانقلاب على أحد الجسور عبر مضيق البوسفور في اسطنبول بعد فجر السبت وتركوا دباباتهم ورفعوا أيديهم في الهواء. ورأى شهود من رويترز أنصار الحكومة وهم يهاجمون جنودا مؤيدين للانقلاب بعد استسلامهم.
وبحلول مساء يوم السبت ذكرت محطة سي.إن.إن تورك أن قوات الأمن استكملت عمليتها ضد مدبري الانقلاب في مقرات هيئة الأركان العامة للجيش. كما قالت مصادر أمنية إن الشرطة اعتقلت نحو مئة من ضباط الجيش في قاعدة جوية في جنوب شرق البلاد.
وقالت وزارة الأمن العام وحماية المواطنين في اليونان المجاورة إن السلطات اعتقلت ثمانية رجال كانوا على متن طائرة هليكوبتر عسكرية تركية هبطت في مدينة أليكساندروبوليس شمال البلاد في منتصف النهار يوم السبت وأضافت أنهم طلبوا اللجوء السياسي.
وقالت القنصلية الأمريكية في تركيا إن السلطات المحلية تمنع الدخول إلى قاعدة إنجيرليك الجوية والخروج منها. وقالت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) إنها تعمل مع تركيا لاستئناف العمليات الجوية في القاعدة التي تستخدم لتنفيذ ضربات جوية ضد تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا المجاورة.
بدأ الانقلاب بطائرات حربية وطائرات هليكوبتر تحلق في سماء أنقرة وتحرك جنودا لإغلاق جسري مضيق البوسفور الذي يربط أوروبا بآسيا في اسطنبول.
واتهم إردوغان مدبري الانقلاب بمحاولة قتله ووعد بتطهير القوات المسلحة التي سبق أن نفذت عددا من الانقلابات العسكرية الناجحة رغم أن آخرها كان من أكثر من 30 عاما. وقال إردوغان – الذي شهد أيضا احتجاجات حاشدة على حكمه قبل ثلاثة أعوام – “سيدفعون ثمنا باهظا لهذا. هذه الانتفاضة هي هدية من الله لنا لأنها ستكون سببا في تطهير جيشنا.”
وذكر تلفزيون تركي في وقت لاحق بأنه تجري عملية تطهير للقضاء.
وقال وزير في الحكومة إنه في مرحلة ما أثناء المحاولة احتجز مدبرو الانقلاب بعض القادة العسكريين رهائن. وعلى الرغم من أن بعض الجيوب المنعزلة للمتمردين لا تزال موجودة فقد أعلنت الحكومة بحلول مساء السبت أن الوضع أصبح تحت السيطرة بالكامل وقالت إن 2839 شخصا اعتقلوا بين جنود عاديين وضباط رفيعي المستوى وبينهم من شكلوا العمود الفقري لمحاولة الانقلاب.
وذكرت وكالة الأناضول للأنباء أن من بين من اعتقلتهم السلطات التركية القائد العام للجيش الثاني وبذلك أصبح الجنرال أدم حدوتي أكبر مسؤول عسكري يتم اعتقاله حتى الآن عقب محاولة الانقلاب.
وقال مسؤول وتقارير إعلامية إن السلطات ألقت القبض أيضا على قائد الجيش الثالث الجنرال أردال أوزتورك وإنه سيواجه تهمة الخيانة بعد محاولة الانقلاب. واضاف المسؤول أن أوزتورك تورط في مؤامرة الانقلاب.
ولو كانت نجحت محاولة الإطاحة بإردوغان الذي يحكم تركيا منذ 2003 لكانت مثلت أحد أكبر التحولات في الشرق الأوسط منذ سنوات فضلا عن تحول كبير في أحد أهم حلفاء الولايات المتحدة بالمنطقة في الوقت الذي تحتدم فيه الحرب على حدودها.
لكن فشل محاولة الانقلاب قد يؤدي أيضا إلى زعزعة استقرار بلد عضو في حلف شمال الأطلسي يقع بين الاتحاد الأوروبي والفوضى في سوريا في الوقت الذي يستهدف فيه انتحاريون من تنظيم داعش المدن التركية وفيما تخوض الحكومة حربا مع انفصاليين أكراد.
وتوجه إردوغان الذي كان يقضي عطلة على الساحل عندما وقع الانقلاب إلى اسطنبول جوا قبل الفجر وظهر على شاشة التلفزيون وسط حشود من المؤيدين خارج المطار الذي فشل مدبرو الانقلاب في تأمينه. وفي كلمة لحشد من آلاف المؤيدين في المطار قال إردوغان في وقت لاحق إن الحكومة لا تزال تتولى الدفة رغم استمرار الاضطرابات وقتها في أنقرة.
وقال إردوغان إن مدبري الانقلاب حاولوا مهاجمته في منتجع مرمرة. وتابع قوله “قصفوا أماكن بعد رحيلي عنها مباشرة. اعتقدوا على الأرجح أننا كنا لا نزال هناك.” وقال اردوغان أمام حشد من أنصاره يهتفون مطالبين بتطبيق عقوبة الإعدام يوم السبت إن مثل هذه المطالب قد تبحث في البرلمان.
ولطالما كانت علاقات حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي ينتمي له إردوغان متوترة مع الجيش الذي له باع في الانقلابات العسكرية دفاعا عن العلمانية رغم أنه لم يسيطر على السلطة بشكل مباشر سوى في 1980.
وأدت رؤية اردوغان المحافظة لمستقبل تركيا إلى انصراف الكثير من المواطنين العاديين عنه واتهامه بالاستبداد. واستخدمت الشرطة القوة المفرطة في 2013 لقمع احتجاجات حاشدة تطالب بمزيد من الحرية.
لكن إردوغان يتمتع أيضا بإعجاب وولاء الملايين من الأتراك ولاسيما بسبب إعادة النظام لاقتصاد كان يواجه أزمات بشكل متكرر. وارتفع مستوى المعيشة بشكل ثابت تحت حكمه وبينما واجه الاقتصاد مشاكل خطيرة في السنوات الأخيرة فقد سجل نموا فاق المتوقع بنسبة 4.8 في المئة في الربع الأول من العام مقارنة بنفس الفترة من العام السابق.
لكن من المرجح أن يؤثر العنف على قطاع السياحة الذي يعاني بالفعل بسبب التفجيرات والثقة الهشة في قطاع الأعمال.
في ليلة شابتها الغرابة في بعض الأحيان استخدم إردوغان مواقع التواصل الاجتماعي للحديث إلى الشعب التركي – رغم عداوته المعلنة لمثل هذه التقنيات عندما يستخدمها معارضوه واستهدافه المتكرر لفيسبوك وتويتر.
وفي مرحلة ما استطاع إردوغان أن يلقي خطابا للأمة عبر خدمة اتصال بالفيديو وظهر على شاشة هاتف محمول ذكي لمذيعة في قناة (سي.إن.إن تورك) والتي رفعت هاتفها أمام الكاميرا في الاستوديو حتى يتسنى للمشاهدين أن يروا إردوغان.
وقال إردوغان إن محاولة الانقلاب تمت بتشجيع من “هيكل مواز” في إشارة لأنصار رجل الدين البارز فتح الله كولن الذي يتهمه إردوغان مرارا بأنه يحاول تأجيج تمرد داخل الجيش والإعلام والقضاء.
وكان كولن الذي يعيش في المنفى الاختياري في الولايات المتحدة مؤيدا لإردوغان في فترة ما لكنه أصبح خصما له. ونفى كولن الاتهامات بأنه لعب دورا في محاولة الانقلاب وقال إنه يدينها بأشد العبارات.
وقال كولن في بيان “بوصفي شخصا عانى في ظل انقلابات عسكرية عديدة خلال العقود الخمسة الماضية .. فإن من المهين على نحو خاص اتهامي بأن لي أي صلة بمثل هذه المحاولة. وأنفي بشكل قطعي مثل هذه الاتهامات.”
وقال وزير الخارجية الأمريكي جون كيري إن الولايات المتحدة لم تتلق أي طلب لترحيل كولن.
وبدا أن عملية التطهير تتجاوز الجيش. فقد ذكرت محطة (إن.تي.في) التلفزيونية نقلا عن قرار للمجلس الأعلى للقضاة والمدعين أن السلطات عزلت 2745 قاضيا من مناصبهم.
وأعادت السلطات البحرية التركية يوم السبت فتح مضيق البوسفور أمام ناقلات النفط بعد أن أغلقته في وقت سابق من اليوم لعدة ساعات في أعقاب محاولة الانقلاب.
وبحلول الساعات الأولى من صباح السبت استمر المشرعون في الاختباء في الملاجئ داخل مبنى البرلمان في أنقرة بعد أن تعرض المبنى لإطلاق النار من دبابات. وقال نائب معارض لرويترز إن البرلمان تعرض لإطلاق النار ثلاث مرات وأن أناسا أصيبوا.
وعندما انعقدت جلسة البرلمان في وقت لاحق من يوم السبت أدانت الأحزاب الأربعة الرئيسية في تركيا محاولة الانقلاب العسكري في بيان مشترك تلي بالبرلمان يوم السبت فيما يمثل ابتعادا عن المشهد المعتاد للانقسامات السياسية.
والأحزاب الأربعة تنتمي لأطياف سياسية مختلفة في البلاد من اليمين المتمثل في حزب العدالة والتنمية ذي الجذور الإسلامية الذي أسسه إردوغان وصولا إلى حزب الشعوب الديمقراطي الموالي للأكراد والمنتمي ليسار الوسط.
وقال قائد في الجيش التركي أيضا أن مقاتلات تمكنت من إسقاط طائرة هليكوبتر استخدمها مدبرو الانقلاب فوق أنقرة.
ومع انقضاء الليل تحول الزخم ضد مدبري الانقلاب. وتحدت الحشود أوامر البقاء في منازلهم وتجمعوا في الساحات الرئيسية في اسطنبول وأنقرة ولوحوا بالأعلام ورددوا الهتافات.
وفي حين أخذ أنصار الحكومة في اعتلاء دبابة قرب مطار أتاتورك في اسطنبول قال أحد الرجال “لدينا رئيس وزراء ولدينا رئيس أركان ولن نترك هذا البلد ينهار.”
وقال البيت الأبيض إن الرئيس باراك أوباما كرر دعمه لحكومة تركيا “المدنية المنتخبة ديمقراطيا” ودعا كل الأطراف المشاركة في الأحداث هناك لتجنب انتهاج أي سلوك من شأنه زعزعة الاستقرار.
وقال جون كيري إنه اتصل بنظيره التركي وأكد “الدعم الكامل لحكومة تركيا المدنية المنتخبة ديمقراطيا والمؤسسات الديمقراطية.”
ودعا رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك إلى عودة سريعة للنظام الدستوري في تركيا قائلا إنه لا يمكن حل التوترات هناك بالأسلحة.
وأدانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل محاولة الانقلاب وحثت أيضا على اتباع حكم القانون خلال الفترة التي تلي الانقلاب.
وكثيرا ما تتسم علاقات إردوغان بالاتحاد الأوروبي بالتوتر في ظل قلق التكتل من بعض تحركات إردوغان مثل الحملات على الإعلام التركي.
قال إردوغان إن الخطوط الجوية التركية استأنفت رحلاتها يوم السبت.
وفي أوج تحرك مدبري الانقلاب سيطر جنود على قناة (تي.أر.تي) الرسمية التي أعلنت حظر تجول على مستوى البلاد وفرض الأحكام العرفية. وتلت مذيعة بيانا بأمر من القطاع المؤيد للانقلاب الذي اتهم الحكومة بتقويض الديمقراطية وحكم القانون. وقال البيان إن تركيا ستدار من “مجلس للسلام” سيضمن سلامة الشعب.
وانقطع بث القناة بعدها بفترة قصيرة. واستؤنف بثها في الساعات الأولى من صباح السبت.
وتركيا أحد الداعمين الرئيسيين لمعارضي الرئيس السوري بشار الأسد في الحرب الأهلية السورية. وتستضيف تركيا 2.7 مليون لاجئ سوري وكانت في العام الماضي منصة انطلاق لأكبر تدفق للمهاجرين على أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
وتخوض تركيا حربا ضد انفصاليين أكراد وتعرضت لسلسلة هجمات بالقنابل وإطلاق النار من بينها هجوم قبل أسبوعين شنه متشددون إسلاميون على المطار الرئيسي في اسطنبول أودى بحياة أكثر من 40 شخصا.
وشغل إردوغان منصب رئيس الوزراء منذ 2003 ثم انتخب رئيسا للبلاد في 2014 مع خطط لتغيير الدستور لمنح الرئاسة الشرفية إلى حد كبير سلطات تنفيذية أوسع