سويسريات 4… اللاجئ ثانياً
معمر عطوي
ربما تفاجئت سويسرا بأعداد المهاجرين طالبي حق اللجوء السياسي أو الإنساني في هذا البلد الأوروبي الصغير الواقع بين أحضان قوى عالمية كبرى مثل فرنسا وألمانيا، والقريب من إمبراطورية لم تكن لتغيب عنها الشمس كان إسمها بريطانيا العظمى.
المثير للجدل في بلد شهد أربع اتفاقيات حول حقوق الإنسان، أبرزها اتفاقية جنيف العام 1951 تنص على حق اللجوء الإنساني والسياسي لكل مضطهد في العالم، يبدو اللاجئ شخصاً غير مرغوب فيه، خصوصاً في المراحل الأولى من استقباله، إذ يتم وضعه في مبنى شبيه بالسجن لا يخرج منه ليوم أو لأيام. وفي زمن الانترنت و”الواتس آب” يمنع على اللاجئ في هذا المقر الأول الاحتفاظ بالهاتف وأي أجهزة كهربائية أخرى، كما يمنع من الخروج إلا بإذن من رجال الأمن، ولساعات محددة، حيث يتم تفتيشه بدقة لدى عودته.
ولعل هذا العدد الهائل نسبة لعدد السكان القليل الذي لا يتجاوز التسعة ملايين، قد فاجأ السلطات التي تبالغ أحياناً في الاهتمام بإنسانها تربوياً وصحياً ومالياً، لكنها تقف عاجزة عن استقبال بضعة آلاف من المهاجرين الوافدين بمعظمهم عبر إيطاليا، خصوصاً او فرنسا، فاضطرت الى اسكان بعضهم في ملاجئ تحت الأرض، في وضع ينافي تماماً كل القيم الإنسانية النبيلة التي صيغ بها دستور البلاد منذ عقود.
على هذه المساحة الجغرافية الجميلة البالغة 41285 كيلومتراً مربعاً تشكل الكانتونات الستة والعشرين متعددة الثقافات واللغات، والتي لا يمكن وصفها بأقل من جنة على الأرض، يعيش اللاجئ لعنة الانتظار الطويل ريثما يتم البت في وضعه.
وفي حين تتوفر الإعانات الصحية والاجتماعية والتعليمية والمساعدات المالية والنشاطات الترفيهية للاجئ حتى منذ لحظة وصوله، فإن العديد بات يشكو من سوء السكن الجماعي، وخصوصاً تلك التجمعات التي كانت معدة في الأصل للحماية من الحروب النووية وتم فتحها أمام اللاجئين الوافدين من سوريا واريتريا وافغانستان وبعض دول البلقان وافريقيا وشرق آسيا.
المنظمات الانسانية والدولية التي تتحدث عن استعدادها لحماية اللاجئ وتقديم كل معونة له، تقف في حضرة القرارات الرسمية، عاجزة هي الأخرى عن المساعدة حتى على أقل تقدير في توفير محامين قادرين على متابعة الملفات الشائكة، والبت في قضايا اللاجئين المنتظرين لشهور طويلة في مساكن جماعية تفتقر أحياناً كثيرة للتمتع بحرية وحقوق هي من أساسيات حاجات الإنسان، أو حتى للحماية من السرقة والاعتداء على الخصوصية التي هي من حق كل شخص يسعى لحياة كريمة بعيداً عن الاضطهاد والقمع الموجودين في بلده الأصلي.
المتطوعون من المنظمات غير الحكومية يسعون بكل ما لديهم من امكانات وجهود لتوفير التعليم والرفاهية واللهو لأولاد اللاجئين، فيصطحبونهم في رحلات برية ونشاطات ترفيهية ولقاءات تعليمية وتربوية، إضافة الى تعليمهم اللغة والموسيقى وتوفير بعض حاجاتهم من الملابس والألعاب والوسائل الضرورية. أما الشؤون الاجتماعية فلا تقصّر بما هو مناط بها من توفير مبلغ متواضع لشراء الطعام وتقديم المسكن والخدمات الصحية والتعليمية.
بيد أن الظروف غير الصحية التي يعيشها اللاجئ تطرح تساؤلات حول رفض أشخاص قادرين على الاندماج في المجتمع ولديهم الكفاءة والخبرة وفهم الذهنية الأوروبية بما يجعلهم مواطنين صالحين في المستقبل وفق المعايير الأوروبية. فلا يوجد اهتمام خاص بمن هم من حملة الشهادات الجامعية او ذوي مستويات ثقافية عالية.
فالحال هو غير ذلك، إذ أن معايير الرفض والقبول تطرح علامات استفهام حول قبول لاجئين هم من اصحاب السوابق في السرقة وتجارة المخدرات ومنهم من يتحول الى العمل مع خلايا ارهابية متشددة، ومنهم من يبقى ضمن “غيتو” خاص به وبجماعته فلا يتعلم لغة البلاد ولا يندمج في مجتمعهم الذي قد يصفه غالباً بالكافر.
لكن أمام كل هذه العظمة التي تعيشها سويسرا تاريخياً كدولة ديموقراطية راقية متقدمة على غيرها في مجال حقوق الإنسان، وحيث تشتهر بالدخل المرتفع للفرد المتمتع برفاهية وحياة رغيدة وتعليم عال ولغات عديدة أفضل من اقرانه في دول أوروبية أخرى عديدة، تفضح هذه الأعداد الكبيرة وغير المتوقعة أصلاً من اللاجئين وطالبي اللجوء والمهاجرين سياسات ضعيفة لسويسرا غير مناسبة لدستورها الراقي. لعلها سياسات تجعل هذا الإنسان المرتحل نحو شمال الكرة الأرضية بهدف الشعور برغد العيش والأمان، مستاءً وكئيباً لا هو قادر على العودة الى جهنمه ولا هو قادر على حل مشكلاته العالقة في أدراج البيروقراطية والتي قد يستغرق العمل عليها أحياناً اكثر من سنة.
في مرحلة الانتظار هذه لا يمكن وصف الباحث عن اللجوء في سويسرا سوى بانسان من درجة ثانية.
لكن المواطن السويسري والمقيم “الشرعي” الحاصل على أوراق رسمية للدراسة والعمل والإقامة، هو إنسان محظوظ في هذا البلد يعيش في واد غير ما يعيشه اللاجئ المسكين. لعلها هي سنة الحياة أن تكون الجنة أيضاً مقسّمة الى درجات تضرب بعرض الحائط كل ما يحكى عن مساواة في الانسانية والحق في اختيار طريقة العيش.