سويسرا: الثقافة تتجوّل في الشوارع
معمر عطوي
لا تنتظر الثقافة في سويسرا الناس لكي يرتادوا بلاطها. بل تتبعهم أينما حلّوا، وترافقهم في تجوالهم وطعامهم وشرابهم وتسليتهم كظلالهم تماماً.
هذا الشعب الموزع على ستة وعشرين كانتوناً تتآلف فيها لغات أربع، والذي يتجاوز تعداده الثمانية ملايين نسمة، قد يكون أكثر الشعوب ثقافة وتعلماً وإتقاناً للغات. هنا يتحدث نحو عشرين كانتوناً اللغة الألمانية بينها ثلاثة كانتونات تتحدث أيضاً الفرنسية مثل برن وفريبورغ وفالس. أما الكانتونات الباقية فمنها أربعة ناطقة بالفرنسية وواحد ناطق بالإيطالية والأخير ناطق بالرومانية القديمة أي اللاتينية.
هذا التنوع اللغوي فتح أمام المواطن السويسري آفاقاً واسعة للإطلاع على لغات عديدة، فالألماني الذي يعيش في بازل أو في زوريخ مثلاً يتقن الى جانب لغته الأم اللغة الفرنسية والإنكليزية وقد يزيد اليها الإيطالية والرومانية. وهذا حال الكانتونات الأخرى، إذ من الصعب أن تجد مواطناً هنا يتقن أقل من ثلاث لغات.
عامل اللغة هذا يفتح الباب على مصراعيه أمام تلاقح ثقافي يجعل كل فرد مطلع على ثقافة الآخر. إذ تمتد مساحة المعرفة لتتجاوز حدود الدولة الصغيرة البالغة فقط 41285 كيلومتراً مربعاً. فالناطق بالألمانية تجد لديه ألمام بالثقافة الفرنسية وأدبها وانجازاتها العلمية، بحكم اتقانه للغتها، فتجده يقرأ جان جاك روسو الذي ولد في جنيف عام 1712، كما قد تستهويه آراء فلاسفة مثل هنري فريديريك آميل الذي عاش في القرن التاسع عشر في جنيف، وعلماء مثل الفيزيائي آينشتاين الذي عاش ردحاً من الزمن بين زوريخ وبرن وأطلق منها العديد من ابتكاراته العلمية.
قد تفتح اللغة مجالاً أمام المواطنين الألمان على الفنون الإيطالية والانجازات الثقافية والأدبية الفرنسية، في مقابل اهتمام مواطنين فرنسيين أو إيطاليين بقراءة فلاسفة ألمان أو بالاستمتاع بموسيقى ألمانية لبيتهوفن أو موتسارت النمساوي وباخ وبراهام.
وأهم ما قد يشكل تقاطعاً بين اللغات الثلاث هي اللغة اللاتينية التي تُعتبر عمقاً تاريخياً أوروبياً قد لا يتقنها الكثير، لكن يفهم معظم السويسريين أهميتها كأم للغات اللاتينية الحديثة رغم قلة عدد الناطقين بها في كانتون غراوبوندن والبالغ عددهم نحو 197000 نسمة يتقنون إليها الألمانية والإيطالية على الأغلب.
الواضح أن دور المدارس هنا رائد في هذا المجال، إذ أن تعلّم اللغات العديدة بحكم تنوع البلاد الثقافية، يُعتبر واجباً لا بد منه لكي تتعزز أواصر التواصل بين أبناء القوميات المختلفة في وطن واحد. وتأتي اللغة الإنغليزية لتضيف فائدة أخرى تزيد من معارف المواطن، خصوصاً أن سويسرا بلد سياحي بامتياز ويتحتم على سكانه التواصل مع السواح باللغة التي باتت اليوم تسمى لغة التجارة والاقتصاد.
الثقافة هنا متجولة ليس بسبب الغنى اللغوي فقط، بل لأن الكتاب في المتناول أينما حل الشخص. إضافة الى المكتبات العامة التي تنتشر في معظم أحياء المدن وفي القرى، هناك صحف ومجلات متوفرة بشكل يومي في المقاهي والمطاعم والمسابح والأندية الإجتماعية. كذلك هناك العديد من المقاهي لديها نظام المقهى الثقافي حيث يمكن للزبون أن يتسلى بقراءة رواية أو ديوان شعر أثناء احتسائه شراباً.
الكتاب موجود أيضاً في الطريق كهدية للمارة وكذلك في الأماكن العامة، حيث يتبرع المواطن بما قرأه من كتب الى مكتبة في مسبح أو نادي أو قد يضعها الى جانب الطريق مع عبارة “هبة”.
القراءة في سويسرا مثل معظم دول أوروبا مشهد يومي تلاحظه في وسائل النقل والحدائق والمتنزهات والمقاهي والمطاعم.
ناهيك طبعاً عن المتاحف والمسارح ودور الأوبرا والموسيقى والسينما وكل ما يخطر على بالك من انواع وميادين ثقافية وفنية.
حتى الهواتف الذكية التي يظن البعض أن فائدتها تقتصر على المحادثات والرسائل والألعاب، تتوفر فيها روايات وكتب علمية يمكن للمرء أن يستفيد منها خلال رحلة قصيرة بين برن ولوزان مثلاً، أو خلال انتظاره عند الطبيب أو في المقهى.
وبالنسبة للألعاب قد تحمل بعداً ثقافياً أو تعليمياً يعتمد على ذكاء اللاعب، متل لعبة الشطرنج التي تنتشر في كل مكان. هذه اللعبة أصبحت من معالم المدينة القديمة حيث يمكن لشخصين أن يتنافسا لقتل ملك الخصم في الشارع، من خلال لعبة مرسومة على الأرض مع أحجار كبيرة يحرّكها اللاعب وقوفاً. كما تلك اللوحة المرسومة على الأرض منذ أكثر من خمسين عاماً مقابل مبنى البرلمان في ساحة “برن بلاتز”.
الجميل في الأمر أن المواطن السويسري لا يكتفي بتعلم لغات أبناء بلده، أو لغات أوروبية أخرى كالإسبانية والإنكليزية فقط، بل تجد لدى البعض نهماً لتعلم الروسية والفارسية والعربية والصينية. وقد وفّر وجود عدد كبير من طالبي اللجوء والمهاجرين في البلاد مساحة واسعة للحوار بين الثقافات المتباعدة جغرافياً، إذ ينظم متطوعون سويسريون وجمعيات تهتم بالمهاجرين لقاءات للتعارف بين الوافدين الجدد وسكان البلد. عادة ما تتم هذه اللقاءات في باحات الكنائس أو في المقاهي والمكتبات العامة. وقد تتحول الى مشاريع نزهات واستجمام وحفلات شواء في الحدائق والمتنزهات.
من هنا تبدو سويسرا ليست فقط بلداً للباحثين عن فرصة عمل أو ملجأ للهاربين من الإضطهاد، بل هي مكان رحب لتلاقح الثقافات وتبادل اللغات على مدى يتجاوز حدود الكانتونات.