شهيّة المذاق رواية «صحراء الظمأ» لـ الأخضر بن السايح
باريس- الطيب ولد العروسي (خاص)
جذبت الصحراء الجزائرية بشكل خاص والعربية بصفة عامة الكثير من الكتاب الغربيين للغوض في أعماقها والعيش فيها كبديل للمدينة، مثلما فعلت الأديبة الذائعة الصيت إيزابيل هبرهاردت التي اختارت الجنوب الجزائري وهي بعد شابة للتوغل في أعماقه، وتجد حتفها في بعض الرمال الصحراية، كما فعل أندريه جيد حينما اكتشف هذا الفضاء الواسع واستقر في مدينة بسكرة، كما مشى على خطاه الفنان الفرنسي المعروف إتيان دينيه، الذي ترك حياة البذخ والبورجوازية ليستقر في مدينة بوسعادة بالجنوب الجزائري، بل اعتنق الإسلام وعاش ومات ودفن فيها، اذا فإن الصحراء عمق المتاهة، الصحراء فضاء مفتوح لكلّ الاحتمالات…. الصحراء سؤال مؤرق يلاحق الإنسان منذ الأزل ومن رحم الميلاد…. إنها مكان للتقاطع…. للتجاور…. للتآلف…. و التنافر.
وعليه، نجد شخصية الرواية (“صحراء الظمأ’ الصادرة حديثا في الجزائر عن منشورات دار التنوير لصاحبها الأخضر بن السايح) ، مصطفى…. حيدر …. الطيب …. عباس، سوزان، عائشة تامت.. شخصيات متنافرة…. مختلفة التكوين…. متباعدة الرؤى، تلتقي في السيارة تغامر تجازف لتقتحم عالم المجهول…. الوجهة واحدة لكن الأسباب متعددة…. والأهداف متناقضة…. الطريق واحد…. والمتاهة واحدة …. الصحراء التي تسيطر على مصطفى لتخطفه من الواقع إلى الوهم إلى حدّ الهذيان…. حيدر، يحمل مقود الأمان كدليل يرصد الطريق باحثا عن تضاريس الجسد، ليروي ظمأ الرغبة…. سوزان هي النقيض المضاد لتضاريس الصحراء جسد ابيض ناعم…. ارض خصبة للصراع وإشعال فتيل النار…. حيدر يحمل سلاحه ويقيم خيمته ويصنع مصيره…. فهو يسعى دائما إلى ما وراء التخوم .
هنا يختلط التاريخ بالسياسة و خشونة الصحراء مع رهافة الحضارة، جنوب يسعى إلى شمال ونار إلى جليد وصحراء إلى بحار .فهذا الزواج الحضاري هو الذي يمثّل متن الرواية وعالمها.
صحراء الظمأ…. بحث عن الارتواء عن الإشباع لخفايا ذات تبحث من خلال السرد عن سؤال مؤرق ….هذه تحيات قارىء ضاع بين مصطفى وحيدره، بين سارة وسوزان وبين شك قاتل، وظمأ لا يروى أبدا.
طلعت علينا رواية ” صحراء الظمأ ” كنطفة شهد كشمعة خرجت من ظمأ الأرض لتنبش تلك التخوم و الدروب و العوالم اللامنتهية في فيافي الصحراء ، لتلد الحكاية من ركام التحوّل لؤلؤة بطلها ” حيدر عبد السلام ” الذي يمسك مقود الأمان ، فهو صامد في تلك البراري الصحراوية كأنّه صرح من صروح الأقدمين ، أو كشجرة السيّال في تلك الصحاري حادّة الأشواك تقهر الموت لأنّها لا تسرف في الحياة .
ومهما قيل عن هذه الشخصية التي اختمرت طويلا في أعماق الصحراء و تضاريسها ووديانها و سهوبها و جبالها ورمالها ، حتّى عتقت كجيد الخمور ، ورغم كونه أشبه بنبتة صهدها قحط البرور الحارّة إلاّ أنّها كالزوبعة العاتية ، طلعت كالنبت من الروابي وتراءت لها ملامح المستقبل و ضّاءة حبلى بإمكانيات العمل و الإنجاز خاصّة مع وجود ” سوزان ” هذه المرأة الإنجليزية التي تحوّلت إلى زوبعة مختبئة فنبضها فتيّ ، ودمها أحمر ، حوّلت الصحراء إلى منبع يشعّ منه الأمان و التفاؤل .
تجدر الإشارة إلى أن أحداث الرواية تدور في الصحراء الكبرى الجزائرية التي تبدأ من الطاسيلي مرورا بجانيت و عين صالح وورقلة فغرداية حتى مدينة الأغواط في فضاء رحب واسع يتّسع لما يسمّى ” الجنوب الجزائري الكبير ” .تبدأ الرواية من غيرة ” مصطفى ” و القلق الذي نزل عليه دفعة واحدة نتيجة الشكّ في أمر زوجته ” سارة ” وبين شكّ قاتل و ظمأ لا يروى أبدا تنطلق الرحلة من أقصى نقطة في الجنوب الجزائري متجهة إلى الشمال .
يلتقي مجموعة من النّاس في السيّارة ، شخصيات بأفكار متناقضة و آراء متباعدة لا يجمعهم إلا جوف السيارة .
– مصطفى انتقام و اصطخاب و حرب ، لا يرى الحياة إلاّ مقبرة و انتحاب و ثأر .
– حيدر يملك مقود الأمان ، و يملك القدرة على المجازفة ، وقد تحوّل في تلك الصحراء القاحلة إلى شبح يتمطىّ سرابا ورملا و لا يبالي ، يسعى إلى مشارف الصحراء إلى ما وراء التخوم ، مكتفيا بصخرة وظلّ وماء ، تركض في مفاصله الفحولة ، وإن حفاه الظلّ و العبير أولفّه الهجير ، يبقى سؤالا في فراغ مطرّز بالسراب .
– تبقى شخصية ” حيدر ” مثقلة بالدلالات الموحية ، شعاب من الرموز المتشابكة ، كدغل من أدغال الصحراء ، وأنفاق بعيدة من المعاني كالأدغال الموحشة و الكهوف الخرافية .
– الطيب و عبد الجليل أو كلاهما معا يمثلان المجتمع و الدين و التقاليد، فهما مشبّعان بإرث الأجيال القائم على لغة السكون و المنع .
– سوزان هي النشوة و البراءة و الأقحوان ، فهي في نظر حيدر بردا و هواء و ضوءا و ماء ، فهي قصّة المستقبل في سواد الأفق ، ففي جسدها يستيقظ المشتهي كشلاّل عشب يروي ظمأ الصحراء من قحط البرور الحارّة ، فكانت المطر و الموسم المنتظر .
– لقاء ” حيدر ” بسوزان” ، هو لقاء حضارة بحضارة و مناخ بمناخ و حين يسعى أحدهما إلى الآخر ، فقد يسعى مناخ ومشى تاريخ ، و سارت حضارة ، قارّة بأسرها تخطو بخطوهما ، شمال إلى جنوب و شرق بغرب .
– و المتأمّل لجميع مغامرات حيدر مع سوزان يلمس أن هذه المغامرة ملحمة كونية بقدر ما هي مأساة تاريخية ، خرجت من سعير الأجواء الاستوائية إلى مناطق الثلوج الباردة .
– image004.pngالصحراء سؤال مؤرق ظلّ يلاحق الإنسان منذ الأزل ، فهي الخلاء و القحط و الجذب و الظمأ الصحراء موت مطرّز بالسراب و مشبّع بجاهلية الأحقابّ .
وقد اضطرم النصّ بحرائق ” الصحراء ” التي خطفت مصطفى لترميه وراء دهاليزها العميقة و السحيقة حيث الظلام الحالك و النهار الساطع .
– و المتتبع لرواية ” صحراء الظمأ ” عبر التواتر الزمني لسلسة الوقائع وتتابعها يجدها قد عبّئت و أرهفت لكي تصغي إلى نبض ” الصحراء” من خلال المشاهد و الوقفات المنولوجية و الإسترجاعات وقد تنوّعت بين المكبوت و المسكوت عنه ، ونبض الواقع اليومي بجزئياته و تناقضاته ، و رؤية فاضحة لتناقضات الواقع ، ومظاهر السقوط المستفحلة.
– باختصار كانت الرواية بين روافدها الثلاثة الدين ، السياسة ، الجنس ، وفيها نلمس صراع الأصوات ، وتعدّد الرؤى ، وحوارية الأنواع التعبيرية ، و ديمقراطية الحكي بين الشخصيات داخل النّسيج السردي .
– كتابة الرواية كانت إنصاتا للمكبوت ، حيث نلمس الرغبة الجسدية المتشظية في ثنايا النص يمثلها ” حيدر ” ومغامراته التي لا تنتهي بحثا عن الارتواء ، الإشباع .
– وظمأ الأرض الصحراوية إلى المياه و الأنهار و الخضرة و ظمأ المواطن خلف غرائزه الماديّة و المعنوية .
وقد نجح الكاتب في خلق التوتر الدرامي الذي نلمسه في شخصيته ” مصطفى ” و بحثه عن الانتقام إشباعا لحاجته إلى ذلك . و تهافت الأحزاب بحثا عن موقف متفرّد ومغاير لإثبات الكينونة و الوجود ، كما كانت الرؤيا واضحة بوصفها فلسفة للذات و الوطن ، بدون أن يهمل الكاتب تلك الإنزياحات السردية التي يوظّف فيها النص كحيّز لتلقي بقايا و أصوات آتية من نصوص أخرى مهاجرة استمدّها المؤلّف من مرجعيته الثقافية و الدينية و الواقع الذي يعيش فيه .
– ما يلاحظ على شخصيات الرواية ، هو هذا القلق الناتج عن الإحساس بالضياع ، ضياع حيدرة في دروب الصحراء و مجاهيلها بدون أن يحقّق شيئا و نفس الشيء يلاحظ على تامت و عائشة و الطيب و عبد الجليل باستثناء سوزان هذه المرأة الأوربية التي تمثل الحضارة و الحريّة بدون عقد أو حواجز .
– أما بنية العنوان ” صحراء الظمأ ” فيتأكّد برؤيته من خلال الأحداث و الوقائع و من خلال الشخصيات بإرثهم الثقافي و الفكري إضافة إلى الصحراء بما تعرف من أمكنة متساوية في معطياتها الإنسانية و الحضارية و تشترك في عبثية العمل و التغيير الذي يعود إلى استلاب الذات الروحية المتمثّلة بالتوق للحرية و الإنسانية و الحضارة .
هذا ما نلمسه في نهاية الرواية تقريبا حيث تتوقف الرحلة في مكان يسمى ” كوردان ” بعين ماضي و هو من العناصر المكانية الثابتة بمدينة الأغواط ، هذا المكان الذي يمثّل مهد الزاوية التيجانية وهو عبارة عن مزار يقصده الناس للبركة و الشفاء.
ورد على لسان حيدرة حين كان يتضرّع بالدعاء .
” حيدر طغى عليه الجانب الخفي في عالم الروحانيات يدعو دعوة ملهوف إلى من يأخذ بيده ، لكن لا يجد أمامه إلاّ سوزان
ها هي تسأله قائلة ، كفى أيها الفارس الهمام الصحراء ابتلعت طفولتك و شبابك دون رحمة أتركها و ألحق بي ، كفاك تعبّدا و سخرية ، أترك طقوس الشرق البالية ، وهيّا للحضارة .. أنا في انتظارك لتجد الحياة امرأة جميلة و غاوية .. هاهي شفاهك ظمأى شققها العطش .. تعالى لترتوي أكثر .. هنا الشطآن و البحار و الأنهار تشرب حتى ترتوي ولا يكون ظمأ بعد الآن .. لا ظمأ ..لا ظمأ .. لا ظمأ ” [1]
لتبدأ الحياة من الوعي ، لا من الإيمان بالخرافة ، من هنا نلمس عقم الحضارة العربية في تلاحقها مع الغرب لأنّ هذه الحضارة في غيبوبتها و غيابها عن نفسها ، تلغي مؤقتا هدف التواجد في المكان ، و عدم الشعور بالزمن الضائع ، فكان ذوبان الذات و عدم قدرتها على الحياة و الحركة ، كما انكشف دور الشخصيات و تضاءل نتيجة للجرح التاريخي الذي تحمله الذات العربية ، على شكل هوية مفقودة ، تجعله يمشي إلى الذات في الآخرين ، وهاهو يضيّع الذات و الآخرين من خلال المصير الذي آل إليه ” حيدر ” في نهاية الرواية ، حيث نجده يسأل عن كيفية استخراج جواز السفر و بيع السيارة و اللحاق بسوزان.
و في النهاية نشعر مثلما شعرنا في البداية أن رواية ” صحراء الظمأ ” كانت تحمل نكهة شهيّة المذاق ، فجّرت المتن السردي بؤرا مفخّخة في فضاء واسع يمثل ” الصحراء الجزائرية ” في جنوبها الكبير .
كما تكشف الرواية أيضا عن اهتمام صاحبها بمساءلة الذات بشكل دائم، خاصة في حالات مثل التي وجد أبطال رواية “صحراء الظمأ” أنفسهم فيها، مساءلات تتعمق في ثنايا الذات الإنسانية وفي مخزونها الثقافي والفكري والاجتماعي، وهي بالتالي تعكس الهموم الوجدانية للعربي ولاهتماماته وانشغالاته الأساسية في الحياة، انشغالات مركزة عن المسكوت عنه، وعن المكبوت، بينما الغربي يجد في هذه الفضاءات مسلكا آخر للتعويض عن ضجيج المدينة والحضارة، غير أننا نقف لديه عند انشغالات أخرى تتمثل في التفكير في العالم وفي خبايا هذا السكون اللا متناهي، مسائلا التاريخ والحضارة الإنسانية . وكما جاء في رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” على لسان بطلها سعيد فيما معناه أن الشرق يبحث عن الغرب، والغرب يقوم بنفس الشيء، لأن في الشرق خبايا تجذب الغرب، وفي الغرب حرية يفتقدها الشرق لإعلان كبته ومغامراته وانبهاره بالتقدم الحضاري…