نيتشه والإله والسوبرمان في “الطارق” لمكرم غصوب
يبدو الشاعر مكرم غصوب في ديوانه الجديد “الطارق” أكثر تفاؤلاً من ديوانه السابق “نشيد العدم” الصادر في العام 2013، إذ يحوّل سؤال الوجود إلى متعة ويقتل الهدف السوداوي الذي كان ينشده في عمله السابق ويعيد صياغته كوسيلة فقط على طريقة الحياة من أجل الحياة والموت من أجل الحياة. بل هي حياة الإنسان القوي الذي يتحلى بالمعرفة والحب معاً. الإنسان-الإله الزمكاني.
هو وجودي بامتياز، يحاول التمرد على الحتميات، ليصنع من شجرة الشيطان واحة جميلة للحب. هذا ما يلاحظه القارئ حين يتأمل في لوحة الغلاف للرسامة الإيرانية نيغين فلاح. لوحة هي عبارة عن شجرة الشيطات التي تحمل أسماء آلهة الحضارات، وكأنه يقول إن صناعة الآلهة هو فعل شيطاني بحت. لكنه في الوقت نفسه يفلسف الشيطنة على طريقته ليستخرج منها مفهوم الحب وهنا السؤال اللغز الذي يسم كتاب مكرم الجديد. الآلهة هنا تنبت من شجرة نمت على الأضحيات الإنسانية وباتت نار الشيطان هي دمائها التي سقطت بفعل مجزرة “مقدّسة”.
أناشيد الحياة
هو يواصل رحلته التي بدأها مع “نشيد العدم”، بعد ثلاث سنوات، بأناشيد ثلاثة هي: “الحياة خيانة”، “إله من إله” و”زمكاني”.
في نشيده الأول يسعى الشاعر اللبناني لتحويل المآساة الناجمة عن الخيانة إلى صورة فلسفية جميلة تبرّر هذه الخيانة التي ورد تعبيرها مرات عديدة في ديوانه وكأنها هاجسه الوجودي الأول. هاجس يصبح تبريراً لفعل غير مقبول إجتماعياً أو سياسياً أو أخلاقياً: ” أنا الخيانة المشروعة/ انزعي القناع/ الخلق خيانة/ التجدد خيانة/ الحب خيانة/ الموت خيانة/ نخون لنكون أوفياء/ الشمس متعة الإحتراق…”.
من هذه الصورة التجميلية لفعل الخيانة ينطلق إلى ثنائيات الذات والآخر والأنا والأنت في صيغة المخاطب وفي صيغة الغائب. الإثنان في واحد والواحد في إثنين. هي معادلة الحضور والغياب، الخيانة والحب، الله والشيطان: “أعشق امرأتين/
الأولى لا تتكرر، الثانية أتكرر بها/ إثنان أنا، العائد إلى غده والنائم في أمسه/ إثنان أنا، الدامع بعين واحدة والمبتسم بلا شفاه/ إثنان أنا، الطريق بلا قدمين والوصول يدور حول ذاته/ إثنان أنا، فراشة تشتهي النور ونار تلتهم الفراشة/ اثنان أنا، الذي رسم نافذة للحلم/ والذي انتحر منها..”.
أول الكافرين
في نشيده الثاني يتعامل الشاعر مع المعرفة كقوة يحطّم بها أقانيم الجهل، المعرفة هنا هي مسؤولية إنسانية. لذلك يحاول استخراج إله من الإله المعروف في الأديان أو الآلهة التي مرّت على كافة الحضارات. فالمعرفة عنده هي السؤال الوجودي الذي يرى “الإله أول الكافرين”. هي رحلة الشك الى اللايقين حيث يطرح تساؤلاته الفلسفية حول قدرة الله ومشيئته ليصل إلى قتله وخلق إله جديد.
“إذا كانت مشيئته فمن الذي تآمر؟/ ومن الذي خان؟/ ومن الذي حكم؟/ ومن الذي نكر؟/ ومن الذي صلب؟/ أو يحق لي السؤال؟/ أم سأصُلب على السؤال… بمشيئته؟”.
هنا تظهر نزعته النيتشوية في السعي لقتل الله وخلق السوبر مان وهو “إله لا يُعبد”؛ “كانوا يعبدون الأصنام.. صاروا يعبدون المرايا”. يتجسد ذلك بوجودية هيدغرية تصورالإنسان كمحور لما حوله وجوهر يخلق سعادته وأفعاله ولحظته المتجليّة. والإنسان عند غصوب يختلف عن الكائن البشري، ففي حين يجد أن الإنسان هو المؤهل لأن يكون الهاً، لا يرى في البشر سوى “مسوخ عالقة” هي صور “الشمبنزي” التي قد تمثل المراحل الأولى من إنسان داروين.
“تكاثرنا كثيرًا وأمّ الإنسان عاقر/ سامحنا أيها الشمبنزي نحن المسوخ العالقة/
حبيبتي تقمّصتُها حين تقمّصت وحدتي/ لا تخن وحدتك… لن تجد أوفى منها..”.
الإله والسوبرمان
لعل ما يقوم به صاحب “نشيد العدم” هو هدم ما زرعته الميثولوجيا في مجتمعاتنا وإعادة بناء معرفتنا على أساس واضح لا يغرق في غياهب الميتافيزيقا ولا يستسلم للتشاؤم وخيار الخوف من العقاب في العالم الآخر. هو إبن لحظته التي يعيشها بفرح وصدق مع نفسه ومع حياته ومع الناس. فالعمرعنده “يُقاس بالوقت وعدد السنين أما
الحياة فتُقاس بالخلق وديمومة التجدد”. ففي نشيده الثالث يدعو الشاعر إلى خلق اله متصالح مع الزمان والمكان بما يؤكد إنسانيته. مقولة الزمكان هنا تجد أصولها في فلسفة امانويل كانط. هو إله “زمكاني” يتماهى أكثر مع إله نيتشه “السوبرمان”، والذي يصفه مكرم بالإله الحقيقي بصورته البشرية التي تناقض مفهوم الغيب وما بعد الطبيعة. ربما دراسة مكرم لاختصاص هندسة المعلوماتية وإدارة الأعمال، جعلته يفضل التعامل مع المحسوس والملموس.
ما بدأه غصوب مع “كذبة صدف” (2008) والتي تمسرحت على يد المخرج العريق الراحل منير أبو دبس ضمن مهرجانات الفريكة، قد ترك في نفس الشاعر نزعة مسرحية تتجلى في قصائد مليئة بالصورالهادفة التي باتت من أهم عناصر المشهد الشعري الحديث.