العلمانية لا تعني الالحاد….
صدر كتاب جديد للمؤلف أمين الياس تحت عنوان “علمانية من عندنا ” افكار في الطائفية والعلمانية والدين والدولة ،عن دار سائر المشرق للعام 2017 ، ب150 صفحة من حجم الوسط”.
يقسم الكاتب كتابه الى قسمين وخاتمة يحاول من خلالها استعراض مفهوم الطائفية السياسية التي يغزو لبنان ضمن فصول متنوعة وصولا الى القسم الثاني الذي يعرض فيه العلمانية المشرقية ضمن ثلاثة فصول .
يشكل الكتاب بحد ذاته خلاصة فعلية لنقاش الندوة اللبنانية الذي استمر حوالي ثلاثة عقود، طرحت خلالها مفاهيم كثيرة عن العلمانية والطائفية وفصل الدين عن الدولة.
تعتبر الندوة اللبنانية بنظر الكاتب تعبير نهضوي في لبنان البلد الصغير في المشرق، حملت الندوة مشعل الفكر اللبناني منذ تأسيسها في عام (1946 حتى العام 1984- )على يد المفكر ميشال اسمر، حيث شكلت بحد ذاتها منبرا ثقافيا وفكريا في الجمهورية اللبنانية تحت شعار” العامل الثقافي”، لقد استقبلت الندوة في عهدها حوالي (اربعمئة وثلاثة عشر) محاضرا لبنانيين وعربا وغربين حيث وصفوا وقتها بقادة الراي واصحاب الاختصاص ،كان بينهم المسيحين والمسلمين.
ويكتب الكاتب في كتابه بان الصيغة اللبنانية التي وضع عليها النظام السياسي في لبنان ” تقوم عل ثلاثية الابعاد ،لكونها توليفة فريدة من نوعها في العالم تجمع بين الفكرة الميثاقية البريطانية وبين الفكرة الدستورية الفرنسية وبين الطائفية التي هي تراكم تاريخي متات نت الارث الاسلامي ومن خصوصية التاريخ اللبناني”.
لذلك ركز المحاضرون في الندوة على التمسك بلبنان والتمسك بالميثاق ركنا اساسيا في الحفاظ على دعم لبنان الذي له طبيعة خاصة ويشكل لوحة فسيفسائية في التعايش الاسلامي المسيحي الجناحين القوين لهذا البلد المشرقي.
ويرى الكاتب بان العلمانية هي المخرج للازمات الطارئة دائما على لبنان وهي ليست بعيدة عن الفكر اللبناني والعربي والمشرقي ،وان ثمة علمانية ما يمكنان يبلورها مفكرو لبنان والمنطقة العربية وتصلح للبنان والمنطقة .
امين الياس الباحث في التاريخ المعاصر يرى بان العلمانية هو مفهوم تطور في الغرب بشكل لافت منذ اواسط القرن السادس عشر ،غير ان الشرقيين كانوا مشاركين ببلورة هذا المفهوم منذ اواسط القرن التاسع عشر لاسيما مع المعلم بطرس البستاني.
براي الكاتب ان العلمانية هي موضوع يستحق الدراسة، والتأمل من قبل المفكرين العرب واللبنانيين الذين نظروا اليها كمشروع قادر على تخطي واقع الشرق الطائفي والخروج منها من خلال بلورة افكار جديدة تساعد المواطن اللبناني القادر على بناء دولة الحداثة التي تسيطر عليه مفهوم المواطنة وتلغي المحاصصة الطائفية .حيث يري الكاتب بان الغوص في الواقع اللبناني تحت ستار الدفاع عن حقوق الطوائف وامتيازاتها هو الذي يربك النظام اللبناني ويهدد العش المشترك نتيجة سيطرة بعض الاقطاعيين السياسيين في ادارة البلد ويستخدمون المواطنين لزبائن .
ويركز الكاتب على افكار المفكر اللبناني موريس الجميل في محاربة الطائفية التي بسطت سيطرتها على المواطن اللبناني من خلال مفهوم الاقطاعية التي باتت مرتكزة على الطائفية اللبنانية بالدرجة الاولى والتي باتت تعتمد على المزايدة ،مما وسع التنافر الطائفي بين المواطنين اللبنانيين.
وهذه السيطرة الاقطاعية التي قسمت الشعب اللبناني وجعلت من المواطنين زبائن لدى السياسيين والاقطاعين من اجل مصالح خاصة وشخصية، وهذا الانقسام دفع الاقطاع لمواجهة كل موجات الوحدة في الوطن الواحد التي باتت تهدد وجوده ومصالحه، وبالتالي هذا الصراع الذي يقوضه الاقطاع الى تعميق التنافر والتناحر بين ابناء الامة الواحدة وتغيب الحس الوطني لديها.
ويحاول الكاتب تقديم المقترحات الجديدة من خلال تلخيصه لأفكار الندوة اللبنانية وتلاقي اصحاب الآراء الاسلامية والمسيحية على طبيعة استمرار لبنان كوطن مميز للجميع من خلال استبدال الطائفية نظام اخر ،القائم على علمنة الدولة والمجتمع والثقافة ،وهذا لا يعني التخلي عن الدين وممارسته ولكن عدم دمج الدين بالدولة وفصل الدين عن مؤسساته اي (مؤسسات الدولة ) ،انسجاما مع الواقع اللبناني والشرقي .
ويعرض الباحث تجارب لبنانية جديدة مختلفة تطالب دائما بإقامه الدولة العلمانية ،بالرغم من المحاصة المذهبية ولطائفية التي تحكم القبضة على الدولة اللبنانية لكن التجربة المستمرة للعديد من تحركات مطلبية تحمل عناوين مختلفة في اطار السير بتغير النظام الطائفي اللبناني والسير بعلمانية الدولة والمساواة بالحق بين الرجل والمرة وقانون مدني للأحوال الشخصية” متزامنة هذه التحركات المطلبية اللبنانية مع حالة الانتفاضات التغييرة التي تعيشها المنطقة منذ عام 2011 ، مما يدل على لبنان وعنصر الشباب فيه باتوا ينظرون الى ضرورة تغير جذري في التركيبة السياسية التي تعتمد على الطائفية والنسبية والتوافقية متخطية دولة القانون والمواطنة .
فالكاتب يرى بان التغيير حتمية ضرورية في الحياة السياسية المبنية على تبني فسلفة نظرية بعيدة كل البعد عن التجارب السابقة التي اعتمدت اسقاطات ونظرية لا يمكن ان تعيش في لبنان. لذلك يطرح الكاتب نظريته “علمانية من عندنا”.
وهنا يطرح الكاتب في كتابه نظرية مهمة في التعاطي مع مسألة الطائفية اللبنانية واستخدامها في ادارة الدولة السياسية والتي بتت تشكل تهديدا جديدا للبلد وللعيش المشترك بين ابنائه وبين طوائفه وهذا التهديد ليس جديد بل هو قائم بحد ذاته منذ تأسيس لبنان بسبب استغلال القادة للمسائلة الطائفية وتغيب الحسن الوطني عند المواطن .
فالنظرية التي يعتمدها المؤلف هي الاعتماد على (علمانية من عندنا) والتي تفصل بدورها بين الدين والدولة بحيث تحرر الدولة والسياسة من مطلقات الدين، وتحرر الدين من منزلقات السياسة وتسمح له بالتسامي وتحقيق رسالته الانسانية ،على ان تبقى الزمنيات منفتحة بشكل دائم على روحية الدين ومبادئه الثورية والانسانية .
ويشدد الكاتب في طرحه على تقديم معنى صحيح “للعلمانية من عندنا” والتي بدورها تؤمن خدمة للدولة من جهة، وخدمة للدين من جهة اخرى ،مستندا على طرح الفلاسفة الفرنسين الذين اعلنوا بان:” هذه العلمانية المتصالحة مع الدين تسمح للضمير الديني بان يعيش حالة النكران في الشأن السياسي كتحقيق ايجابي وهذا ما سيسمح له بالتوجه للبحث عن التعالي من خلال عكس مضامينه في الفكر الفلسفي العالمي”.
وانطلاقا من هذه الافكار يرى الكاتب بضرورة الفصل المطلق بين الدين والسياسي نلانه بات امرا من الماضي ،ومهمتنا تكمن في ربط هذين البعدين الانسانين بحيث لا تنمو حياة المؤمن الداخلية على هامش حياة المواطن الخارجية .
بالختام لابد من القول بان الكتاب مكتوب بلغة علمية سلسة ولغة عربية واضحة غير معقة في استخدام المراجع والمصطلحات ،ومدعم الكتاب بمراجع كثيرة من اللغتين العربية والفرنسية .
و الكتاب يستحق القراءة حيث يشكل الكتاب مرجعا علميا للقراء والباحثين والطلاب والهواة والمطلعين وللمكاتبات اللبنانية والعربية .