الحاجة إلى العمل تدفع السعوديين إلى الإصلاح
في صالة عرض اكتظت بأجنحة الشركات بمنطقة على أطراف العاصمة السعودية، تجولت عشرات الفتيات السعوديات مرتديات العباءات السوداء الطويلة وغطاء الرأس بين أجنحة الشركات بحثاً عن فرصة عمل.
واستكملت كل فتاة اختبار كفاءة استغرق ثلاث ساعات ونصف الساعة، ينتهي بمنح طالبة الوظيفة تقييماً لعشر خصال سلوكية ونوعين من القدرات الإدراكية. ويحصل أرباب العمل المحتملون الذين يصل عددهم إلى 81 شركة على نتائج الاختبارات لتحديد موعد مقابلات شخصية مع المتقدمات عبر نظام مركزي على شبكة الإنترنت.
كان هذا اليوم مخصصاً للنساء في أول معرض توظيف ضمن سلسلة أطلقتها الحكومة هذا العام لتوفير فرص العمل للمواطنين. وتهدف الخطة خلال الأشهر القادمة إلى تنظيم مقابلات مع 15 ألف رجل وامرأة من إجمالي 100 ألف متقدم وتنظيم معارض مماثلة بمدينتي جدة والدمام.
يقول محمد الموصلي، المصرفي السابق والمسؤول عن البرنامج، “في الماضي كان الحصول على وظيفة عملية يصعب التبوء بنتائجها… أما اليوم نحن نستخدم التكنولوجيا لنتمكن من التنبوء بالنتيجة”.
ويشهد اقتصاد المملكة انتعاشاً بفضل ارتفاع أسعار النفط وكثافة الإنفاق الحكومي. وافادت بيانات أولية أن الناتج المحلي الإجمالي في أكبر بلد مصدر للنفط في العالم نما بمعدل 6.8 في المئة العام الماضي وهو أكبر نمو تحققه المملكة منذ 2003 وسط توقعات الاقتصاديين بأن يبقى النمو عند مستوى مريح يبلغ أربعة في المئة هذا العام.
ولكن لا تسود حالة من الرضى عن النفس بين كبار المسؤولين الحكوميين الذين يتحدثون عن الحاجة إلى توفير ملايين فرص العمل للسعوديين في السنوات المقبلة. وهو تحدٍ يتطلب أن يتجاوز الاقتصاد عقوداً من الاعتماد على النفط والاستثمار الحكومي للتأكيد على نمو القطاع الخاص وريادة الأعمال وهو ما أصبح أكثر إلحاحاً بعد الاضطرابات الاجتماعية التي اجتاحت العالم العربي العام الماضي.
وتجري حالياً مناقشة إصلاحات مالية وقانونية وعمالية قد تطرح في وقت قريب ربما هذا العام. ومن المتوقع اتخاذ خطوات جديدة لتشجيع الشركات على تشغيل السعوديين بالمناصب القيادية وقد يتم فتح أبواب سوق الأسهم أمام الاستثمار الأجنبي المباشر وإدخال تعديلات قانونية لتحفيز قطاع الإسكان.
ويرى بعض المسؤولين أن حركة التنقلات غير المتوقعة بمنصبين اقتصاديين رفيعين في كانون الأول/ ديسمبر الماضي والتي تم بموجبها تكليف محافظ مؤسسة النقد العربي السعودي (البنك المركزي) الذي يحظى باحترام كبير بتولي حقيبة وزارة الاقتصاد والتخطيط تأتي في إطار التحضير لإجراء إصلاحات.
وقال خان زاهد، كبير الاقتصاديين بشركة «الرياض كابيتال» للخدمات المالية، إن الاقتصاد السعودي تطور حتى الآن “سالكاً الطرق السهلة من مرحلة إنتاج النفط والتنقيب عنه إلى توزيعه وتكريره. ويتمثل التحدي الأكبر في الانتقال من هذا إلى صناعات غير نفطية يديرها القطاع الخاص”.
ولفت زاهد إلى أن “الحكومة تنظر إلى المسائل المتعلقة بالصورة الكبرى الآن، توفير فرص عمل والتعليم وتنويع الاقتصاد وكل هذه الأمور”.
وتتحدث السعودية عن تنويع اقتصادها منذ أكثر من عقد لكن فوائض الموازنة الضخمة الناجمة عن الثروة النفطية حدت من الضغوط من أجل الإصلاح. ويسهم القطاع الخاص غير النفطي بأقل من 50 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وتستضيف المملكة ثمانية ملايين عامل أجنبي قدموا إليها لتشغيل قطاع النفط وسد فجوة الوظائف منخفضة الرواتب. ولا تزيد نسبة توظيف المواطنين السعوديين بالقطاع الخاص عن عشرة في المئة.
وكشفت الثورات العربية التي اندلعت العام الماضي هشاشة هذا الوضع. وتجنبت المملكة اضطرابات كبيرة بتكلفة زادت عن 100 مليار دولار في صورة إنفاق مستحدث على مشاريع الرفاهية والبنية التحتية بهدف شراء الاستقرار الاجتماعي. وافاد استطلاع أنه بسبب هذا الإنفاق تحتاج الحكومة إلى أن يصل متوسط سعر النفط بالأسواق العالمية إلى 84.50 دولار للبرميل هذا العام لتضمن استقرار الموازنة ارتفاعاً من 73 دولاراً للعام الماضي و50 دولاراً تقريباً في 2007 .
ومع وصول سعر مزيج برنت خام القياس الأوروبي إلى 110 دولارات تقريباً وتوافر احتياطيات مالية ضخمة لدى المملكة لا تواجه البلاد خطر عجز مالي في السنوات القادمة. لكن على المدى البعيد سينال أي تراجع في أسعار النفط من القدرات التمويلية للمملكة ما لم توفر مصادر دخل جديدة وتعزز اقتصادها.
وقالت وكالة «فيتش» للتصنيف الائتماني في تقييم لها خلال كانون الثاني/ يناير الماضي “بافتراض نمو الإنفاق بنسبة سبعة في المئة وهذا أقل من المتوسط السنوي البالغ 12.5 في المئة بين عامي 2002 و2011 ونمو معتدل لإنتاج النفط ومتوسط سعر للنفط عند 100 دولار للبرميل ستسجل البلاد عجزاً نسبته واحد في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2015”.
وما يزيد التحدي هو الطلب الكبير على فرص العمل بين قطاعات الشعب السعودي الذي يشكل الشباب دون سن 30 عاماً نسبة 75 في المئة منه. وتشكل نسبة البطالة بين السعوديين عشرة في المئة تقريباً وهو مستوى غير مريح سياسياً.
وتقدر الحكومة أن القوة العاملة بالبلاد ستزيد إلى عشرة ملايين بحلول عام 2030 من واقع 4.1 مليون في عام 2008 بسبب نمو السكان وانضمام عدد أكبر من النساء لقوة العمل، وهو ما يجري تشجيعه في إطار الإصلاحات الاجتماعية. وهذا يعني أن الاقتصاد سيحتاج إلى خلق أكثر من خمسة ملايين وظيفة جديدة.
وكان رئيس الاستخبارات السعودية السابق الأمير تركي الفيصل قال الأسبوع الماضي إن البلاد تحتاج إلى تركيز جزء أكبر من مواردها على تطوير اقتصادها الداخلي، مشيراً إلى الضغط على موازنة الدولة والطلب المتزايد على الوظائف. وقال الفيصل أمام مؤتمر للأعمال “التحدي هو كيفية النجاح في استيعاب الملايين من الشباب في اقتصادنا الوطني الذي هو جزء من الاقتصاد العالمي”.
ويذهب الكثير من طاقة الإصلاح إلى التعليم حيث تعمل الحكومة بالتعاون مع القطاع الخاص على محاولة تزويد خريجي المدارس بقدرات عملية أكبر وتطبق نظام معقد من معارض التوظيف ودعم الوظائف وقوانين تدفع شركات القطاع الخاص إلى تعيين مزيد من السعوديين بدلاً من الأجانب.
وصدرت قواعد العام الماضي تعاقب المؤسسات التي لا تطبق الحد الأدنى من توظيف السعوديين ضمن قوة العمل وتكافيء الأخرى التي تتجاوز الحد الأدنى بمعدلات كبيرة. وقال وزير العمل السعودي، عادل فقيه، الأسبوع الماضي إن من المرجح صدور نسخة جديدة من هذه القواعد خلال الأشهر القادمة تحدد حداً أدنى لنسبة ما تنفقه الشركات من أجور للسعوديين مما يشجع على استيعاب المواطنين في الوظائف مرتفعة الراتب.
لكن المسؤولين يدركون أن الإصلاحات العمالية وحدها لا تستطيع إحداث نقلة بسوق العمل. إذ أن المستويات المستهدفة لتوظيف السعوديين قد تضر بالنمو الإجمالي إذ تزيد من صعوبة تحقيق الكفاءة الإدارية في بعض الشركات. ولذلك يجري التخطيط لإصلاحات أخرى تهدف إلى تشجيع نشاط القطاع الخاص.
وقال عياد العتيبي المستشار القانوني للهيئة العامة للاستثمار، إنه يجري العمل على تعديلات قانونية لتحسين مسألة إنفاذ العقود ومساعدة المؤسسات الصغيرة في الحصول على ائتمان. وقال العتيبي إن مؤسسة النقد (البنك المركزي) قد تيسر بعض شروط منح القروض للتخفيف من القيود على الإقراض.
وتدرس الحكومة حالياً فتح سوق المال أمام الاستثمار الأجنبي المباشر ليس بسبب حاجة الشركات المدرجة إلى أموال وإنما لأنها تأمل في أن تسهم استثمارات المؤسسات الأجنبية على المدى الطويل في دفع السوق المشوبة بارتفاع معدلات المضاربات ويسيطر عليها مستثمرون أفراد باتجاه الكفاءة المؤسسية.
ويظن كثير من اللاعبين بسوق المال السعودية أن الإصلاح قد يحدث خلال هذا العام. وفي خطوة في هذا الاتجاه أعلنت هيئة أسواق المال الأسبوع الماضي أنها ستسمح للمؤسسات الأجنبية بإدراج أوراقها المالية بالسوق بالتوازي مع أسواق أخرى.
وفي حال تحرير هذا القطاع سيحدث ذلك في قطاعات أخرى. ودعت الهيئة العامة للطيران المدني الأسبوع الماضي المؤسسات الخاصة لتقديم عطاءات لتسيير رحلات من المطارات السعودية مما يخفف قبضة شركات الطيران والخدمات الجوية الوطنية على القطاع.
ويجري إعداد إصلاحات أخرى لكنها قد تتأخر بسبب حساسياتها السياسية. فتمرير قانون ييسر الإقراض لغرض التمويل العقاري الذي طال انتظاره قد ينعش قطاع القروض المحلية ويدعم سوق العقارات. لكن هذا القانون يجب ان يتعامل بحذر مع مسائل من قبيل السماح للبنوك بمصادرة منازل المقترضين إن تخلفوا عن السداد.
وبلغ الإعداد لإصدار هذا القانون مرحلة متقدمة. يقول زاهد «لقد ساروا تسعة أميال بالفعل ويبقى ميل واحد فقط.»
ومن الإصلاحات بعيدة الأثر المرجحة آجلاً أو عاجلاً رفع أسعار الطاقة للمؤسسات الصناعية والعائلات وهي منخفضة جداً الآن. وهذا قد يدفع الشركات إلى تبني كفاءة أكبر وإنعاش الاستثمارات بمجال ترشيد استهلاك الطاقة ويحد من استهلاك الطاقة محلياً ويوفر مزيداً من النفط للتصدير.
ويعتبر هذا الإصلاح هدفاً صعب المنال للحكومة على الأقل هذا العام. لكن التعديل الوزاري الذي حدث في كانون الأول/ ديسمبر الماضي اعتبره كثيرون إشارة على سعي الحكومة إلى تعجيل الإصلاحات. وشمل التعديل تكليف محمد الجاسر محافظ مؤسسة النقد العربي بحقيبة وزارة التخطيط الاقتصادي وتعيين فهد المبارك المصرفي المتخصص في الاستثمار والذي عمل سابقا لدى مورجان ستانلي خلفا له.
وقال مسؤول سعودي طلب عدم الكشف عن هويته لحساسية الموضوع «وزارة الاقتصاد لديها دور مهم، لكنها لم تكن تعمل كما هو مطلوب منها» مضيفا «هذه أحد طرق دفع التغييرات في المستقبل القريب».