تشدد وليونة ديبلوماسية ماكرون في الشرق الأوسط لسد فراغ غياب أميركا
بالطبع رغم كل ما يقال فإن فرنسا لا تستطيع لأسباب تاريخية ترك لبنان يدخل في معمعة الفوضى. مواقف فرنسا تجاه لبنان هي لازمة تاريخية بغض النظر عن العوامل السياسية. يوجد في فرنسا شرائح واسعة تختلف سياسياً ولا تتلاقى اجتماعياً ولا جغرافياً ولكنها تتوافق على ضرورة ابعاد الحرب عن لبنان. ولكن للحراك الديبلوماسي الفرنسي أسباب أخرى…
باريس لحقت في المرحلة الأولى من أزمة لبنان-السعودية-الحريري، بالإعلام السعودي و«الأجواء العامة» خصوصاً في سياق خطته الرياض عنوانه «محاربة الفساد». ولكن ما ان زالت رغوة الضجيج الذي أثارته هذه الحملة على أصحاب المال من أسماء طنانة حتى توضحت صورة أزمة إقليمية بعد أن كادت الديبلوماسية الفرنسية تدمج بين «حالة الحريري وحالة الفساد بين الأمراء» وهو ما عبر عنه في الفترة الأولى مصدر ديبلوماسي فرنسي بقوله « قصة الحريري قصة داخلية سعودية». وكذلك ما صدر عن الإليزيه من تلميحات حول «سياسة جديدة في المملكة الوهابية».
إلا أن الأمور تطورت تدريجياً خصوصاً بعد زيارة ماكرون إلى الإمارات «والزيارة الخاطفة» التي قام بها الحريري، وأدرك ماكرون الذي كانت تصله ردات فعل الساحة اللبنانية الرسمية والسياسية والشعبية، أن احتجاز رئيس وزراء لبنان يمكن أن يقود إلى خلط أوراق في المنطقة التي تدخل في مرحلة حاسمة.
كما تحسست الديبلوماسية الفرنسية رغبة الأفرقاء في لبنان بإعادة التمحور حول الجبهتين والعودة إلى اصطفاف محته ظروف استقالة الحريري. وكان ذلك جليا بعد صدور بيان للإليزيه «اقتصر على سطرين» يعلن خاتمة انتقال الحريري إلى باريس برفقة عائلته خلال اليومين المقبلين: فإذا بالإعلام اللبناني يعطي تفسيرين لهذا البيان:
واحدٌ يراه صفقة فرنسية سعودية لمحاصرة إيران، وأن ما يصدر عن الرئاسة اللبنانية هي «حملة تحريض على المملكة يتولاها عون بالنيابة عن الحزب المعزول عربياً».
أخرٌ يراه بداية خروج فرنسا عن سياستها المناهضة لإيران وعودتها إلى «موقع وسطي لبناني وإقليمي وتموضعه على مسافة أقرب من إيران» ربطاً بتمسك باريس بالاتفاق النووي. وذهب البعض إلى ربط ذلك؛ بـ« مراجعة سياسة (باريس) في سوريا».
تفاصيل «الصفقة الفرنسية السعودية» ما زالت في طيات الأسرار. لكن التوجه العام لمبادرة ماكرون تتجاوز الحالة اللبنانية ويمكن عبرها استشفاف توجهات الديبلوماسية الفرنسية بشكل عام.
أولا يمكن تبيان وجود خطين داخل الديبلوماسية الفرنسية الأول يمثله وزير الخارجية جان إيف لو دريان والذي يمكن اعتباره قريباً من الخط السعودي فهو آت من وزارة الدفاع إذ كان وزيراً عندما مرت ملفات الصفقات العسكرية تحت يده وتوقيعه. ويوجد خط «الماكينة الديبلوماسية الفرنسية» التي تعتمد على لوازم مبنية على تاريخية ثابتة لسياسة فرنسا في العالم. وهذه الإدارة عمل الرئيس السابق نيكولا ساركوزي على إخراجها من مواقفها المؤيدة للعرب بشكل عام ودفعها نحو وسطية في مقاربة المسألة الفلسطينية والتقليل من استهداف اسرائيل في بياناتها. وقد نجح نوعاً ما في فرض خط جديد تابعه فرنسوا هولاند خليفته. ولكن لم يتأثر التوجه العام للتقارب مع الدول النفطية وهو ما أسس له فرنسوا ميتران وتبعه كل الرؤساء الفرنسيين تأميناً لاستدرار صفقات عسكرية ومدنية بمليارات الدولارات. يمكن القرل إن التياران يلتقياً ولا يختلفا اليوم.
ولكن تغيرات كبرى طرأت على الظروف العامة في الخليج وفي الشرق الأوسط رافقت وصول ماكرون إلى الإليزيه: تراجع أسعار النفط وحرب اليمن والتغيرات في مسلك الحرب في سورية، يضاف إلى ذلك العامل الأهم وهو وجود دونالد ترامب في البيت الأبيض.
وجد ماكرون نفسه وحيداً في مواجهة ناعمة مع ترامب خصوصاً وأن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل باتت ضعيفة سياسياً في الساحة الداخلية، وأن بريطانيا في حالة تلبك سياسي واقتصادي نتيجة البركسيت. تمحورت هذه المواجهة الناعمة الفرنسية الأميركية بشكل خاص في إطارين «مسألة المناخ» و«مسألة الاتفاق النووي مع إيران».
وبالطبع فإن رغبة ترامب بإلغاء الاتفاق النووي أو إعادة والتفاوض عليه تطال كافة ملفات الشرق الأوسط وبشكل خاص الصراع السعودي الإيراني للتأثير على دول منطقة وبشكل خاص لبنان لما يشكل حزب الله من قوة مؤثرة على الأرض. كما تشمل كل أوجه الصراع العربي الاسرائيلي ومتفرعاته.
ما حصل في المملكة السعودية مع الحريري كان مؤشرآً إلى دخول شق النزاع بين إيران والسعودية مرحلة جديدة تطلبت من الديبلوماسية الفرنسية التحرك بسرعة بغطاء أوروبي حصل عليه ماكرون خلال لقاء «كوب ٢٣» في ألمانيا.
وقد اعتمد ماكرون على الخطين المتواجدين في الكي دورسيه عرين ديبلوماسيته وهو اتبع اسلوب التفاوض بأبسط مبادئه والتي ألم بها «المصرفي السابق» (واحد يتشدد وآخر يلين) ولجأ أيضاً إلى حلول يعرفها جيداً كل من عمل على تصريف الإفلاسات التجارية: وهي فرز العوامل الأكثر قابلية للانفجار بشكل شرائح يتم التعامل معها واحدة تلو الأخرى. فتم إخراج الحريري ما أنقذ ماء وجه الأمير محمد بن سلمان (ليونة) وخفض من مستوى التأزم الذي كان يتصاعد رئاسة الجمهورية اللبنانية والسلطات السعودية حيث هدد الجنرال عون بـ«مجلس الأمن» ما كان يمكن أن ينعكس سلباً على لبنان. الشريحة الثانية كانت تصريح لودريان حول إيران التي تتسبب بتوتير الوضع في المنطقة (تشدد). ثم عاد ماكرون ليتحدث عن ضرورة منع التدخل في الشؤون اللبنانية من دون الإشارة إلى إيران (ليونة) وبعدها صرح ماكرون بضرورة التفاوض حول الصواريخ الباليستية الإيرانية (تشدد) ثم مباشرة بعد ردة فعل إيران العنيفة حولا تدخل فرنسا في شؤونها الداخلية قال الرئيس الفرنسي موجهاً كلامه لإيران «لا تسيئوا فهم تصريحاتنا نريد حواراً معكم» (ليونة). ثم صدر بالأمس من البيت الأبيض (ليلة السبت) بياناً مشتركاً أميركيا فرنسياً يعلن اتفاق ماكرون وترامب على «مواجهة نشاطات إيران وحزب الله» (تشدد).
هذا الميزان بين الليونة والتشدد ليس فقط محاولة للعودة إلى منطقة الشرق الأوسط وإيجاد دور لفرنسا، ولكنه نوع من سد فراغ غياب الدور الأميركي حيث يوجد في واشنطن انقساماً واضحاً بين إدارة ترامب والماكينتين الأميركيتين الديبلوماسية والعسكرية، من دون أي تنسيق بينها بعمس ما يحصل بين الكي دورسيه وبين الإليزيه.