هل سينتصر العراق على شياطينه؟
لأول مرة منذ قرون يحكم الشيعة في بغداد؛ هذه المدينة التي كانت من أكثر المدن تعددية في الشرق تفرغ من باقي مكوناتها شيئاً فشيء. “المثل العراقي” كما أرادته الولايات المتحدة فشل فشلاً ذريعاً، مع حلول أكثرية “ديموغرافية” بسبب غياب الأكثرية الديمقراطية الحقيقية. تحول الشيعة من مضطهدون إلى مضطهدين، فارضين معادلة جديدة ولكن طبيعية في مجرى التاريخ. طبيعية لأن هذا التحول ليس بغريب عن الصراع الذي بدأ مع بدء النزاع على الخلافة. الشرخ في الإسلام بدأ تحديداً في بلاد ما بين النهرين، ما يُعرف بالعراق اليوم. هذه البقعة الجغرافية أصبحت بحكم التطورات حدوداً ما بين عالمين: العالم الفارسي، الذي اعتنق المذهب الشيعي ليُميّز نفسه عن غُزاته العرب؛ والعالم العثماني الذي بقي على مذهب السُنة واحتفظ بالخلافة.
هذه الحدود، وإن كانت متنازعة، لم تتغير على مدى العصور وحتى قرننا هذا وسقوط صدام حسين.
الولايات المتحدة فرضت معادلة جديدة ولكنها تجاهلت التاريخ المشبع ما بين الشيعة والسُنة، كذلك بالنسبة للتوازن في المنطقة، ما أدى إلى تغيير جذري يصعب العودة عنه. فلأول مرة منذ حقبة العباسيين، يُحكم العراق من الشيعة.
هذا الواقع الجديد ليس بالضرورة على تناقض مع المصالح الأميركية في المنطقة، لأن المارد العراقي وُضع خارج اللعبة السياسية لمدة طويلة. مما يطابق المصلحة الإسرائيلية أيضاً، إذ بات بذلك الخطر على الجبهة الشرقية غير موجود. لكن هذا الواقع يتطابق أيضاً مع المصالح الإيرانية، إذ أن طهران رأت عدواً تاريخياً يُمحى من الوجود بظرف أيام. إذاً بالرغم من الخطابات والضوضاء الإعلامية، فإن الخلافات ما بين إيران وجيرانها العرب تبقى أكثر حدةً من تلك التي مع الدولة العبرية!
لكن التمييز يأتي في وقع هذا التغيير على واشنطن، طهران وتل أبيب. فما هو تغيير تاريخي بالنسبة لإيران، هو”ضمانة” ظرفية لإسرائيل، بينما يحل خوف الولايات المتحدة من هيمنة خامنئي على البترول محل خوفها من هيمنة صدام على البترول نفسه.
المسرح العراقي يجمع كل التناقضات التي تعرفها منطقة الشرق الأوسط، وواشنطن ما زالت لاعباً مهماً على هذا المسرح. لقد سارع أياد علاوي بطلب تدخل أميركي من أجل إيجاد حل للأزمة التي تمر بها البلاد، ولم يكن مرّ سوى بضعة أيام على إنسحاب الجيش الأميركي. هذا الطلب جاء بعد زيارة سريعة لأُدييرنو، رئيس الأركان الأميركي. زيارة كانت سبقتها زيارتا الرئيس أوباما وبايدن.
رسالة أُدييرنو من خلال هذه الزيارة بالنسبة للبعض كانت داعمة لسياسات المالكي، أما البعض الآخر فسر هذه الزيارة على أنها لحث رئيس الوزراء العراقي على تغيير هذه السياسات المناقضة لمفهوم بناء الديمقراطية، والمحرجة لواشنطن.
مما يوصلنا إلى هذه السياسات، نوري المالكي أصاب هدفين أساسيين من خلال هجمته على أرفع ممثلين للسُنة: طارق الهاشمي، نائب رئيس الجمهورية، وعلي صالح مطلق، نائب رئيس الوزراء. فقد طلب من القضاء ملاحقة الهاشمي بتهمة الإرهاب وطلب من البرلمان سحب الثقة من مطلق.
أكمل المالكي هجمته من خلال توقيف نائب رئيس مجلس محافظة بغداد، رياض العضاض وذلك أيضاً تطبيقاً لقرار قضائي يستند على الفقرة الرابعة من قانون الإرهاب. أحد معاوني محافظ ديالا، غضبان الخزراجي؛ أربعة من أعضاء المجلس المحلي ملاحقون أيضاً بينهم المحافظ نفسه، عبد الناصر المهداوي.
هذه الحملة أدت إلى توقف تكتل العراقية عن المشاركة في جلسات مجلس الوزراء وعن جلسات مجلس النواب؛ بينما كان المالكي يُحضر للتصويت على منع وزراء العراقية من دخول وزاراتهم.
هذه الأزمة أدت أيضاً إلى ترك بعض نواب العراقية للتكتل. لكن التكتل ما لبث أن عاد إلى مزاولة العمل الوزاري والنيابي من دون أي شرط مسبق، قبل التحفظ من جديد على المشاركة في العمل الوزاري. خلال كل هذا حاول تكتل المالكي دولة القانون إستمالة بعض النواب لضمهم إذ أن رئيس الوزراء يخشى فقدانه للأكثرية النيابية مع إعادة تموضع مقتدى الصدر.
الصدر الذي خلف والده في السياسة، بعد أن أُعدم هذا الأخير عام ١٩٩٩، ترأس ما عرف بجيش المهدي الذي كان رأس الحربة في قتال الجيش الأميركي ما بين ٢٠٠٤ و٢٠٠٨. هذا الجيش المنحل رسمياً، قاتل أيضاً القوات النظامية العراقية مما أجبر الصدر على اللجوء إلى إيران عام ٢٠٠٧. علماً أن الصدر لم يكن من الموالين لإيران أو من محبذي السياسة الإيرانية في العراق في ذلك الوقت. في نهاية الأمر أمر الصدر بإيقاف العمل العسكري، مما أدى إلى إنشقاقات وبذلك شُكلت عصائب أهل الحق التي لم توقف القتال. مع جلاء الجيش الأميركي أمر قائد العصائب، قيس الكزعلي، بوقف العمل العسكري وأعلن إنضمام تشكيله إلى تكتل المالكي. رداً على ذلك إتهم الصدر الكزعلي بالعمالة لصالح إيران! علماً أن هنالك تشكيلات أخرى ككتائب حزب الله التي لم تلق السلاح بعد. فإن التوافق المفروض على الصدر هو الذي أدى إلى حصول المالكي على أكثريته البرلمانية التي سمحت له أن يصل إلى رئاسة الحكومة، مع أن أياد علاوي كان أوفر حظاً في ذلك إذا ما إستندنا إلى نتائج الإنتخابات العراقية. بذلك نجح الإيرانيون في فرض المالكي بالرغم من العلاقة المتوترة بينه وبين الصدر الذي أُجبر على دعمه على مضض. إذاً بدعمه الحالي لكتلة العراقية، يعود الصدر إلى موقفه من المالكي وبذلك يلعب دوراً أساسيا وإيجابياً على الساحة العراقية، إذ أنه يمنع الإنقسام الشيعي السني الصرف.
في الخامس عشر من كانون الثاني/ يناير، اجتمعت الكتل العراقية من أجل المحافظة على حكومة الوحدة الوطنية، في إجتماع كان الأول من نوعه منذ إصدار مذكرة التوقيف باسم الهاشمي.
لم يؤخذ أي قرار عند إنتهاء هذا الإجتماع ولم يصدر أي تصريح سوى كلمة الرئيس العراقي جلال طالباني الذي قال إن “المسؤولية تاريخية من أجل مستقبل العراق بعد إنتهاء عهد الدكتاتورية وجلاء الجيوش الأجنبية”، داعياً لعقد مؤتمرٍ وطنيٍ في بغداد لحل الأزمة. لكنه ما لبث أن مرض وسافر إلى أوروبا للعلاج.
كان من المتوقع أن يلتقي علاوي ومالكي خلال هذا المؤتمر، كما العديد من الشخصيات السُنية، الشيعية والكردية. علماً أن ما كان قد إجتمع العراقيون عليه في إربيل لم يُنفذ من قبل المالكي، ذلك بالنسبة للتعيينات الوزارية، طريقة إدارة أمور الدولة، التوازن الطائفي في المؤسسات أو إنشاء المجلس الإستراتيجي. لكل تلك الأسباب أراد علاوي وجود شهود في حال حصول لقاء مع رئيس الحكومة، وإقترح شخصان: مسعود بارزاني رئيس إقليم كردستان أومقتدى الصدر.
يقترح علاوي ثلاثة طرق للخروج من الأزمة، إثنان منها يوجبان رحيل المالكي عن السلطة: تعيين رئيس حكومة جديد من قِبل التحالف الوطني؛ تشكيل حكومة جديدة تُحضر لإنتخابات مبكرة أو تشكيل حكومة وفاق وطني تنفيذاً لإتفاق أربيل. في خضم هذه الأجواء المشحونة المجلس، يتحضر التشريعي للتصويت على مشروع قانون يحدد شروط الترشح لرئاسة الجمهورية، هذا وثلاث محافظات وهي ديالا، صلاح الدين والأنبار قد طالبت بالحكم الذاتي.
الرد السُني لم يتأخر وجاء متمثلاً بهجمات وبتفجيرات تستهدف مراكز الشرطة والجيش، مما ليس بغير إعتيادي ولكن الخطر يكمُن في تحول هذه الهجمات إلى حرب حقيقية تعيدنا إلى ما عرفه العراق قبلاً. إلا أن الجيش الأميركي لم يعد موجوداً ليضبط إيقاع الحرب، بل أكثر من ذلك مع خروج الجيش الأميركي خرج العدوالمشترك الذي كان مصدر توحيد نسبي للمتصارعين.
الوضع ليس على تحسن بينما المقربون من المالكي منهم من يتهم الأتراك بإرسال جواسيسهم إلى بغداد ويتهمون الإيرانيون بالتدخل بالشأن العراقي؛ “هيومان رايتس واتش” تتهم حُكم ا لمالكي بالعودة إلى طُرق نظام صدام حسين، بينما المالكي يمنع زيارة قبر هذا الأخير في تكريت.
السؤال الكبير الذي يبقى في الأذهان هو التالي: بأي إتجاه سيميل المارد العراقي ومن سيستفيد من خروجه من القمقم. هذا إن لم يكن العراقيون غارقين بدمائهم باحثين عن خلاصهم، لا قوة لديهم لحك الفانوس السحري…