- أخبار بووم - https://www.akhbarboom.com -

البرقع وشتاء فرنسا

بسّام الطيارة

برد شتاء فرنسا جاء متأخراً. قبل أيام كان ميزان الحرارة يشير إلى درجة شبيه بأيام ربيعية. وفجأة جاء البرد القارس، وهبطت الحرارة عشرة درجات وباتت تسجل أرقاماً قياسية، وخصوصاً عند الصباح. وبالطبع مواكبة الدوائر المسؤولة كانت لصيقة، ليست فقط لمراعاة المواطنين ومداراتهم من الوقوع في مخالب المرض. ولكن أيضاً مداراة لما يترتب على الاقتصاد من نتائج سلبية عندما يقبع من ٤ إلى ١٢ في المئة من العاملين الفرنسيين في منازلهم بإجازات مرضية بسبب السخونة في مواسم «نزلات البرد». أضف إلى ذلك المصاريف الإضافية التي تترتب على مصلحة الضمان الاجتماعي نتيجة تعويضات أيام الغياب المرضية، وهي تصل سنوياً إلى ملياري يورو، ناهيك عن عدد الذين يقدمون تقارير كاذبة بسبب هذه الموجة والتي تكلف مصلحة الضمان حوالي ٨٠٠ ألف يورو.
لذا قررت أن أحاول قدر الإمكان عدم الوقوع في براثن المرض، وخصوصاً أن كافة الريبورتاجات التي تتحدث عن مواضيع الغش في الضمان الاجتماعي لا تظهر إلا «مواطنين فرنسيين من أصول عربية». وبغض النظر عن هذا الاستهداف المتزايد مع ارتفاع حرارة اليمين الأوروبي، وبعيداً عن كل «بارانويا أتنية» قررت أن لا أقع مريضاً وأن «أعقل الناقة ومن ثم أتوكل».
فذهبت إلى حقيبة ملابس الشتاء أبحث داخلها عن ملابس التزلج، علني أجد ما يفيدني في هذا الطقس الثلجي، فوجدت «لفحة من الصوف» يستعملها المتزلجون، اشتريتها مرة في جبال الألب، رغم أني لا أمارس هذه الرياضة، وهي تغطي العنق كاملا وتصل إلى الأنف، بحيث تمنع تنفس الهواء البارد وبالتالي خدش الرئة. وكم كانت فرحتي كبيرة عندما وجدت قبعة من الصوف الطري التي يمكن أن تغطي الأذنين. وهكذا إلى جانب معطف سميك يمكنني أن أخرج لأواجه موجة البرد القارس والرياح العاتية التي تضرب شوارع باريس.
ولكن قبل خروجي من المنزل ألقيت نظرة على المرآة، فوجدت أنني لا بد منتصر على «الجنرال شتاء»، أياً كان جحافله الباردة. إذ لا يمكن لأي زمهرير أن يجتاز دفاعاتي التي طورتها (أنظر الصورة). كنت سعيداً. في المصعد كنت أحاول أن أتصور ما يمكن أن يقوله المارة حين يرون شكلي المقنع.
فجأة قفز إلى ذهني، كوني «مقنعاً» لا يظهر من وجهي إلا عيناي،

قانون البرقع: لا يمكنني أن أمشي في الشارع ووجهي غير ظاهر. توقفت في البناء. نظر لي جاري، بالطبع لم يعرف من يختبئ وراء «القناع» فكانت نظرته شرسة.
تهيبت الخروج إلى الشارع، وخصوصاً أن على زاوية شارع المنزل يوجد شرطي لتسهيل عبور أولاد المدارس.  عدت أدراجي إلى المنزل. قررت نزع «تنكري المضاد للبرد» خوفاً من قانون البرقع. بالطبع سوف اعرِّض نفسي للمرض ولكنه يظل أخف من أن يمسك بي الشرطي ويعنفني ويكلفني الأمر غرامة ٥٠ يورو إلى جانب «دروس في كيفية الاندماج في المجتمع الفرنسي».
نزلت إلى الشارع وأنا ارتعد من البرد والرياح تلسع وجهي وتجمد أذني وتقرز أنفي. ولكن كم كانت دهشتي حين رأيت تقريباً كل الفرنسيين ملحفين من رأسهم حتى أخمض أقدامهم، لا نرى من وجوههم إلا عيونهم والشرطي نفسه متلفحاً بشبه قناع مضاد للبرد يسهل عبور الأطفال المتدثرين في معاطف وقبعات تغطي وحوههم.
فقط الفرنسيون من أصول عربية كانت وجوههم سافرة. مثلي أنا.  كانوا يتحملون لسعات الريح الباردة يجابهون البرد القارس.  هذه الشجاعة في تحمل برد الشمال هي جراء قانون البرقع وأحد «نتائجه الجانبية» فهو لم يحصر مفعوله في اللاوعي فقط في «المبرقعين»، بل في كل ذوي الأصول العربية والإسلامية. بات هؤلاء سجناء هذا القانون وسجناء النظرة التي ولدها لدى شركائهم في الوطن وفي أنفسهم أيضاً.