ربيع أحمر… للشاعرة حفيظة الفيلالي الخطابي
على وقع تفاعيل ديوان « ربيع أحمر »، للشاعرة المغربية حفيظة الفيلالي الخطابي يسافر القارئ في رحلة عبر محطات المشاعر على أنواعها وحب للوطن وتساؤلات حول الحاضر والمستقبل.
أصدرت الشاعرة حفيظة الفيلالي الخطابي مؤخرا، آخر أعمالها الشعرية في ديوان جديد، تحت عنوان “ربيع أحمر“، والذي يحوي ثلاثين قصيدة. وقد اختارت شاعرتنا الطريق الصعب في ديوانها هذا، وهو الالتزام بقواعد الخليل وتفعيلاته. في الوقت الذي يختار كثير من المبدعين الشعراء كتابة الشعر الحر، فيتحررون من قيود الوزن، والقافية، والقواعد الشعرية التي رسمها الخليل بن أحمد الفراهيدي، ومن الأنماط والقوالب الشعرية التي سار عليها الأجداد. هذا بالإضافة إلى أمر آخر حواه هذا الديوان، وهو الالتزام بقضايا الإنسان، وأوطان العروبة. طارحة في نفس الوقت كثيرا من الأسئلة، حول الحاضر المؤلم، والمستقبل، والمصير. وهي الهواجس التي تدُكُّ مضْجع كل فرد في أوطاننا، في هذه المرحلة المِفْصلية التي نعيشها…
ومما يلاحظة القارئ وهو يطالع قصائد هذا الديوان، هو سهولة العبارات التي يتابع بعضها بعضا بتلقائية كحبات مطر، تبعث في الروح رطوبة، وحياة، وسعادة، ونوعا من الراحة. كونها لا تحوجه إلى قواميس، ومعاجم، يغوص في لجج صفحاتها لكي يفهم معاني بعض الكلمات، ومؤداها. إنها رحلة عبر شعر سهل ممتنع في آن معا. وكأنه تحد من نوع آخر تريد أن تقوله الشاعرة الفيلالي من خلف ستار قصائدها؛ ليس كل من خاط الثياب خياطا…
وبينما يكون فكر القارئ سارحا في رحلته، مُتمْتِما لأبيات قصائدها، صاعدا، هابطا، متمايلا مع موسيقى وأجراس تفعيلاتها، فإنه يتهادى بهدوء في عوالم تلك القصائد نفسها وموضوعاتها، فتحدث لديه إضافة من نوع آخر. فيكون أمام مشاهد ثلاثية الأبعاد إذا ما مر على عبارات تتحدث عن الطبيعة، ويحس بذرات الماء إذا ما تحدثت عن المطر، أو يلثم وجهه نسمات ربيعية إذا ما ذكرت الربيع، أو يسبح كرجال الفضاء إذا ما ذكرت الكون والسماء ونجومها. لتفيض في نفس الوقت مشاعره حزنا وفرحا وشوقا وأسى ولوعة، بنفس القدر الذي دوزنته وأرادته له الشاعرة.
وإذا ما أمسك القارئ الديوان بين يديه، فإن شاعرتنا لا تنتظر عليه طويلا لكي يكتشف محتوى ديوانها، وطبيعة ما تكتبه، ونبضه. بل ومن خلال الغلاف الخلفي للكتاب (الغلاف الرابع)، تعطيه مفاتيحا للقراءة، وتدخله إلى عالم ديوانها وملكوته، موضحة الطريق الذي ستسير عليه أحرفها، والتي هي جزء لا يتجزأ من كيانها، فتُصرِّح له قائلة:
لَيْلي حُــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــزْنٌ، لَيْلي أَرَقٌ وَأَنِيسِي في سِجْنِي وَرَقْ
وَمِدَادُ حُــــــــــــــــــــرُوفي سَيْلُ دَمٍ مِنْ نَزَفِ فُؤَادٍ يَـــــــــحْتَرِقْ
وَرَحَى حَرْبٍ طَحَنَتْ قَوْمِي فَغَدُوا فِــــــــــــــــــرَقاً لَا تَتَّفِقْ
ويُعْتبرُ الديوان كباقةِ زهْر، كل قصيدة منه بلون، ورائحة، وعبق مختلف، تنثره الشاعرة على قرائها. حتى إذا ما فتحت أبْوابها لتستقبلهم، كانت تحيتها وأولى قصائدها « ياشام »، وهي قصيدة مُهْداة إلى مأساة القرن الواحد والعشرين، والأحداث الدائرة في سورية العروبة. فنجد أنها تطرح الأسئلة التي هي على كل لسان وخاطر، وكأنها تتحدث باسم الجميع فتقول:
يا زَهْرَةَ الدّنْيَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا أَرَاكِ حَزِينَةً أَضْحَتْ جِنَانُكِ بِالْحُرُوبِ جَهَنَّمَا
تِلْكَ الْخَمَائِلُ وَالْحَدَائِقُ أُحْرِقَتْ وَلَكُمُ شَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــدَا طَيْرِي بِهَا وَتَرَنَّمَا
وَحَضَــــــــــــــــــــــــــــــارَةٌ كَانَتْ لَدَيْكِ عَرِيقَةً أَخَذَ الْعَدُّوُ لُبَابَهَا وَتَعَلَّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــمَا
ثم تتناول الشام في ديوانها مرة أخرى، فتكون فيها أكثر مباشرة من سابقتها في تحذير العابثين بها، والمستهترين بتاريخها العروبي، مُحذرة إياهم، ومُتوعدة، ومن ذلك قولها:
يَا عَابِثاً بِجِرَاحِ الشَّـــــــــــــــــــــامِ تًدْمِيهَا تِلْكَ الْأَبِيَّةُ عَيْنُ اللهِ تَحْمِيهَـــــــــــــــــا
أَرْضُ الرِّجَالِ فَـــــــــــــلَا ذِلٌ وَلَا وَهَنٌ فَالْعِزُّ ثَوْبٌ بِهِ تَسْمُو فَيُسْمِيهَا
هَذِي الْبِلَادُ سَتَغْدُو بَهْجَةَ الْمُهَجِ غَداً بِمَنٍّ وَفَضْلِ اللهِ نُنْمِيهَــــــــــــــــا
ويشير عنوان الديوان “ربيع أحمر“، أو بالأحرى يُلخِّص ما تضمنته قصائده من هُموم ومعاناة واقعنا المعاش. ولا يعني ذلك أن القصائد سوف تكون محصورة في الربيع العربي الذي أنتج بحار دم، وتسبب بخيبات لا تعد ولا تحصى لدى الشباب. إذ أنها سريعا ما تنقلنا إلى عوالم المشاعر الإنسانية، التي هي عالم مواز لعوالم الإصلاح السياسي والاجتماعي، وذلك عبر قصيدة ” أخيرا التقينا “، فتحاكي فيها نونية ابن زيدون، وقصة حبه العنيف مع ولادة بنت المستكفي، أو بالأحرى ترُدّ عليه بطريقة غير مباشرة، مُخْتارة لقصيدتها قافية أخرى غير النون. وبينما يُرَدِّد ابن زيدون شاكيا بعد الحبيب، ونأيه، وهجره عنه:
وَاسْــــــــــــــــــــألْ هُنالِكَ: هَلْ عَنَّى تَذَكُّرُنا إلْفـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاً، تَذَكُّرُهُ أَمْسَى يُعَنِّينَا…؟
وَيَا نَسِيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــمَ الصَّبَا بَلِّغْ تَحِيَّتَنَا مَنْ لَوْ عَلَى البُعْدِ حَيّاً كَانَ يُحَيِّينَا
فَهَلْ أَرَى الدَّهْرَ يَقْضِينَا مُسَاعَفَة مِنْهُ، وإِنْ لَــــــــــــــــــــمْ يَكُنْ غِبّاً تَقَاضِينَا
فإنَّ شاعرتنا ترد على تساؤلات ابن زيدون حول اللقاء، جاعلة منه حقيقة واقعة. متجاوزة بذلك كبرياء ولادة، وأسلوب تعاملها معه. وتخبرنا أيضا أنه عاد التداني بعد التنائي، والوصال بعد البعاد، قائلة:
فَعَادَ زَمَــــــــــــــــــــــانٌ نَجْتَني مِنْ ثِمَارِهِ وَصَـــــــــــــــــــــــــــارَ لَنَا بَعْدَ التَّنَائِي مُدَانِيَا
فَسِرْنَا وَصِرْنَا في سُرُورٍ وَغِبْطَةٍ بِدَرْبِ الْهَوَى نَلْقَى الْهَنَا وَالتَّهَانِيَا
هذا وتتناول شاعرتنا في ديوانها عدة جوانب من أغراض الشعر وأبوابه. فتطرق أبواب شعر الحكمة بقوة، حيث نجد أنها في غالب قصائدها لا تترك فرصة دون أن تُعرِّج على هذا المَنْحى. مُخصصة عدة قصائد لهذا المجال، منها القصيدة المُعَنْوة بـ «أخلاق الكرام»، والتي تتناول من خلال أبياتها بعض الأمراض الاجتماعية المختلفة. فتتوجه إلى الإنسان منادية إيَّاه بالحِفاظ على مكارم الأخلاق التي طالما كانت حِصْنا من حصون العرب عبر التاريخ. والتي افتقدتها مجتمعاتهم في أيامنا هذه، فعمَّت فيها الأمراض الاجتماعية المختلفة فتقول:
وَلَا تَغْتَبْ وَلَا تَفْضَحْ أَخَاكَ لَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــعَلَّ الْأَمْرَ إِفْكٌ وَافْتِرَاءُ
وَلَا تَنْظُرْ إلى رِزْقٍ أَتَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاهُ وَلَا تَحْقِدْ فَــــــــــــــــــإِنَّ الْحِقْدَ دَاءُ
وَلَا تَنْقُمْ عَلَى قَوْمٍ أَسَـــــاءُوا فَإِنَّ تَفْعَلْ فَذَاكَ هُوَ الْغَبَاءُ
وتحملنا من خلال إحدى قصائدها إلى عالم الوقوف على الأطلال، الذي أبدع فيه الشعراء العرب، وكانت لهم في ذلك مدرستهم الخاصة. فتقوم شاعرتنا بحجز مكان لها في هذه القاطرة، سالكة لطريق وعر، لم ينجح فيه كثير من الشعراء. بل تسبب في سقوطهم أحيانا. وذلك من خلال أكثر من قصيدة إحداها قصيدتها « مررت بربع الحبيب »، والتي تختلط فيها مشاعر الذكرى القاسية، بفيض من مشاعر رقيقة، من الممكن وصفها بأنها تداعب الروح، ولواعج النفس. والتي من أبياتها:
مَرَرْتُ بِرَيْعِ الْحَبِيبِ أُسَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــائِلُهُ أَيَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا مَنْزِلاً كَمْ وَجَّعَ الْقَلْبَ نَازِلُهُ
فَفَاضَتْ شُؤُونُ الْعَيْنِ شَوْقاً وَحُرْقَةً عَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلَى زَمَنٍ يُبْلِي الْهَوَى وَيُنَازِلُهُ
هُنَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا كَانَ بِالْأَمْسِ الْقَريبِ حَبِيباً يُشَـــــــــــــــــــــــــاغِلُ قَلْبِي في الْهَوَى وَأُشَاغِلُهُ
أَيَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا مَنْزِلاً أَيْنَ الَّذِينَ هَوَيْتُهُمُ…؟ هُوَ الْمَوْتُ حَلَّتْ في الْحَصَادِ مَنَاجِلُهُ
حاملة إيانا من خلال قصيدتها هذه، إلى أجواء تلك القصيدة الخالدة التي نظمها شمس الدين الكوفي (ت698)، وبكائه على أطلال عاصمة العباسيين بغداد، بعد اجتياحها من قبل المغول. والتي مطلعها:
إِنْ لَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــمْ تُقَرِّحْ أَدْمُعِي أَجْفَانِي مِنْ بَعْدِ بُعْدِكُمُ فَمَا أَجْفَانِي
وَلَقَدْ قَصَدْتُ الدَّارَ بَعْدَ رَحِيلُكُمُ وَوَقَفْتُ فِيهَـــــــــــا وَقْفَةَ الْحَيْرَانِ
فَسَأَلْتُهَا لَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــكِنْ بِغَيْرِ تَكَلُّمٍ فَتَكَلَّمَتْ لَكِنْ بِغَيْرِ لِسَـــــــــــــــــــــانِ
وفي قصيدة أخرى تأخذ بأيدينا إلى أغوار عالم بعيد، أي أجواء تلك القصيدة الخالدة، معلقة امرئ القيس، التي مطلعها «قِفا َنْبكِ مِنْ ذِكْرَى حبيبٍ وَمَنْزِلِ»، والتي شكلت مدرسة قائمة بذاتها في الشعر العربي. فحاكاها شعرا ووزنا ومطلعا وقافية، كثير من شعراء العرب عبر العصور. وكأني بشاعرتنا تريد أن تربط الماضي بالحاضر، وأن تخبرنا أن الإنسان بالرغم من تقدمه التكنولوجي، فإنه ما زال يتوقف عند أطلال الأحبة، ويفكر بنفس الطريقة والأحاسيس والمنطق. لأن المشاعر هي المشاعر في كل زمان ومكان، وتتوحد في هذا الكائن الحيّ، فتقول:
قِفَا بِرُبُوعٍ لِلْحَبِيبِ وَوَدِّعَــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا أَلِيفاً عَلَى عَرْضِ الْفُؤَادِ تَرَبَّعــــــــــــــــــا
مَضَى مُسْرِعاً عَهْدُ الْغَرَامِ فَأَيْنَ مَنْ أَقَمْتُ لَهُ في مُضْمَرِ الْقَلْبِ مَرْتَعـا
أَيَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا دُمَناً أَذَكَّرَتْني بَهْجَةُ اللِّقَا فَأَيْقَظَتِ الذِّكْرَى أَسىً وَتَوَجُّعــــــــــا
سَــــــــــأَلْتُ فَلَا رَجْعَ سَمِعْتُ وَلَا صَدَى فَمَا رَاحَ صَعْبٌ أَنْ يَعُودَ وَيَرْجِعا
ونرى أنها تؤكد حبها لوطنها وانتماءها له، في أكثر من موضع في ديوانها. وخصصت لذلك حيزا مهما، حيث إنها لا تترك فرصة إلا وتشير إلى ذلك، إيماءً، أو صراحة، كما في قولها:
أَبَداً لَمْ أَنْسَكَ يَا بَلَدِي في ظُلْمَتِنَا أَنْــــتَ الْفَلَقُ
تـَــــــــــــاقَتْ عَيْنَايَ لِرُؤْيَتِكَ وَالشَّوْقُ بِقَلْبِي يَخْتَنِقُ
وهكذا تُنْهي شاعرتنا رحلتها في ديوانها ما بين جاهلية وأندلس ودمشق وبغداد. مرددة بُشْراها لجميع أبناء وطنها، والعروبة، لكي يستعدوا لحجز مكان لهم في قطار الأفراح، الذي أعلنت بأنه سوف ينطلق، ولن يعوقه عائق:
بَعْدَ الْعُسْرَى تَأْتِي الْبُشْرَى رَكْـــــــــبُ الْأَفْرَاحِ سَيَنْطَلِقُ
خالد بريش كاتب وباحث مقين في فرنسا