« ظل الشمس » للكاتب الكويتي طالب الرفاعي باللغة الفرنسية
منذ أن عرفت الإنسانية ترجمة الكتب والمؤلفات، وعرف العرب ترجمة كتب اليونان، والحضارات الأخرى التي سبقتهم، وأسئلة كثيرة مطروحة حول كيف نترجم…؟ وفيما لو كانت الترجمة هي كتابة وصياغة أخرى، وولادة جديدة للنص، أو المتن…؟ أم هي نقل حرفي عبارة عن قوالب جامدة بلا روح، كقوالب الباطون المرصوصة مدماكا فوق مدماك، ومرادفا يتبعه مرادف آخر…؟ وفي الواقع فإن الترجمة باب واسع ولج منه كثيرون، نجح البعض، وفشل البعض الآخر. إلا أنها تبقى قليلة تلك الترجمات التي خرجت من بين أيدي المترجمين، وأدت دورها في عرض النص الأساس، والأفكار التي حواها بنفس الجمالية أسلوبا وإثارة وتشويقا.
والدافع إلى هذه المقدمة حول الترجمة، وإعادة طرح هذه الأسئلة القديمة الجديدة، هو صدور ترجمة فرنسية لرواية الكاتب الكويتي طالب الرفاعي « ظل الشمس »، عن دارSindbad ACTES SUD الباريسية التي أخذت على عاتقها منذ فترة، القيام بتعريف القارئ الغربي ببعض ملامج الأدب العربي، شعرا كان أو سردا. ولقد قام بهذه الترجمة الأستاذ الجامعي منصف الخميري، وبدأ بها معهد العالم العربي ربيعه الثقافي لهذا العام من خلال ندوة شارك فيها الكاتب نفسه، ومدير دار النشر الأستاذ فاروق مردم بك. وحضرها عدد كبير من الكتاب والشعراء والإعلاميين في باريس، غصت بهم قاعة المكتبة.
وإذا كانت ترجمة العنوان بـ L’Ombre du soleil تتطابق مع العنوان الأساس للرواية، فإن المترجم قدم للقارئ ترجمة وفية (Traduction fidèle) حيث بذل جهدا كبيرا من أجل قولبة النص الروائي، ونقله دون تهشيم، ولا تزوير، إلى لغة فرنسية سلسة، متماسكة جملا وتراكيبا لغوية أدبية رفيعة، تمشي بخط متواز مع أسلوب الكاتب، وتعكس في آن معا كل الهموم والمشاكل والآلام التي حوتها سطور الرواية بصدق. وتنقل للقارئ الفرنسي كل ما أراد الكاتب طالب الرفاعي قوله وتوصيفه وإرساله من رسائل واضحة، لا يسترها ظل الشمس الذي لا يخفي حتى الهمسات. وكذلك كل ما صورته عدسة قلمه من تفاصيل جُبلت بالألم والمرارة، ذكرتنا إلى حد كبير بكتابات الأدباء الأفارقة ومعاناتهم مع المستعمر الأوروبي وأنظمته. ونضالات الأفرو أمريكان وآلامهم، وإيقاع موسيقاهم الذي على ما يبدو أن الكاتب طالب الرفاعي قام بتنضيد عباراته وتدبيجها طبقا لمقاماتها وإيقاعاتها الهادرة المتوالية كنبض قلوب تئن وتشتكي من كل شيء.
لقد خرجت هذه الترجمة من بين يدي مترجمها، كما هو حال النص العربي، قاسية قسوة غربة مغترب، غادر وطنه ورحمه لسنة، أو سنتين، ولكنه لم يعد، وربما لن يعود. مُهاجر يركض خلف ظِله وسط أحلام يعرف تماما أنه لن يحققها، فيُردِّد في قرارة نفسه وكلما نظر في المرآة: ماذا فعلت بنفسك…؟
قام الأستاذ منصف الخميري بعملية الترجمة هذه خلال فترة إقامته في الكويت، فعايش الأماكن التي دارت فيها أحداث الرواية شمسا وحرارة وظلا. وقام خلالها بزيارة مناطق سكن العمال الأجانب ومناطق تجمعاتهم، وورش عملهم. وزار أيضا كل الأماكن التي شهدت تفاصيل الأحداث وورد ذكرها في الرواية. واطلع على معاناة العمال وعذاباتهم ومشاكلهم عن كثب. يضاف إلى ذلك قربه خلال هذه الفترة من الكاتب نفسه، فدارت بينهما نقاشات كثيرة حول الأفكار التي حوتها الرواية وأحداثها، وأمور أخرى كثيرة. فتقاربت وجهات النظر وتكاملت، فعكست ترجمته بصدق مشاهداته وما خبِرَه، وما أراد الكاتب تمريره من خلال روايته.
وإذا كان أسلوب الكاتب طالب الرفاعي في الكتابة يتميز بتلقائية غير مسطحة تغوص في العمق، فتحمل إلى القارئ الحقيقة الفجة بلا زخرفة ولا ماكياج، بالإضافة إلى التبسيط في الألفاظ والمفردات، مما يأسر القارئ، ويدخله في عوالم الرواية وأحداثها، بمجرد الابتداء في قراءتها. فإن المترجم تخطى حواجز ومشاكل الترجمة الأدبية بحنكة. وبفضل إحساسه اللغوي الواضح، وامتلاكه لناصية اللغتين العربية والفرنسية معا، نجح في إيصال محتوى ما يترجمه إلى القارئ بهدوء، وبنفس التلقائية والتبسيط، ودرجة الصدق المشحونة بها سطور الرواية.
وسوف يدرك القارئ الفرنسي والأوروبي عموما بلا أدنى شك، أن بطل الرواية حلمي المهاجر بحُلمه وحِلمه وصبره على مآسي وآلام الغربة، ابتداء من الحصول على أوراق الإقامة ورخصة العمل، وانتهاء بوحدته الضاغطة على كيانه وروحه المحطمة أصلا، لا يختلف بأي حال من الأحوال عن كثيرين يرونهم اليوم في شوارع مدنهم وقراهم، وهم يفترشون الأرصفة، ويلتحفون السماء. وأن هذه التجربة الإنسانية ليست خاصة فقط بالعمال القادمين إلى الكويت، ودول الخليج الأخرى، بل هي تجربة من الممكن تعميمها على كل مدن العالم الحُلم وعواصمه. وكم هم كُثر الذين يرددون اليوم مع شاعر الكنانة، أو بالأحرى مع الخال كما كان يحلو له أن نُناديه، وأقصد الراحل عبد الرحمن الأبنودي:
شبابيكنا من غير هوا
شبابيكنا من غير ضو
البحر مرصوف بلاط
والأوضة وسع النّوْ…
* كاتب مقيم في باريس