نشر الحضارة مهمّة مقدسة
«إن القوى الحاملة لمشاريع سامية لسعادة خالصة لا تأخذ بعين الاعتبار بأي شكل من الأشكال العذابات الثانوية، وتستأصل هذه الزوائد من أصول الإنسانية التي تقف بوجهها… أكانت بشكل إنسان أم حجر: على العقبة أن تزول»
هربرت سبنسر (Herbert Spencer)، فيلسوف إنكليزي ١٨٥٠
أطلقت تصريحات كلود غيان بأن «كل الحضارات لا تتساوى» موجة حرب كلامية. بالطبع يدرك الجميع أن هذه الأقوال تندرج في خضم الحملة الانتخابية لكسب أصوات ناخبي اليمين المتطرف. إلا أنها تصيب أهدافاً أبعد بكثير، إذ إنها تطرح مسألة معنى الحضارة.
ملاحضة أولية: يرى غيان أن من بين الأسباب التي تجعل حضارتنا تفوق الأخريات هو مساواة المرأة بالرجل. في ٦ شباط/فبراير نشرت صحيفة «فان مينوت» (20 Minutes) خبراً عن «مصرع امرأة بضربات سكين»، ويمكننا أن نقرأ في صحيفة «لو باريزيان» (Le Parisien) «يوم السبت قتت امرأة بعد طعنها بالسكين من قبل زوجها في برويار سور واز (Bruyère-sur-Oise)، وقد نقلت إلى المستشفى وقضت في الطريق، بيتنما تم اعتقال زوجها بتهمة القتل».
بالطبع إن هذه الحادثة التي سوف تدخل أرشيف الصحافة تحت باب «أحداث متنوعة» ليست برهاناً على أن «حضارتنا» لا تحترم المساواة بين المرأة والرجل. ولكن لو كان القاتل مسلماً، عندها لكانت هذه الحادثة برهاناً على دونية «حضارته».
في كتابي «إلى ما تشير كلمة فلسطين» (؟ De quoi la Palestine est-elle le nom) تطرقت كثيراً لهذه الفكرة التي كانت وراء العديد من التبريرات الاستعمارية عبر التاريخ.
إذا ألقينا نظرة على «قاموس تاريخ اللغة الفرنسية» (Dictionnaire historique de la langue française) الذي نشر تحت إشراف «ألان ريي» (Alain Rey) فإن كلمة «حضارة» (civilisation) لا تظهر إلا في سنة ١٧٢١، وجاء تعريفها كالآتي: «مسار تاريخي للتقدم (…) مادياً اجتماعياً وثقافياً ونتاج هذا المسار، أي حالة اجتماعية تعتبر متقدمة».
إذا فإن فعل «تحضير» يقود إلى «دفع مجموعة بشرية إلى حالة أكثر تقدماً مادياً وثقافياً واجتماعياً». الفيلسوف والمستشرق «فولناي» (Volney)، صاحب كتاب «رحلة إلى سوريا ومصر- ١٧٨٧» ( Voyage en Syrie et en Egypte -1787) كان يضع مقابل الرجل الحضاري… أكلة لحوم البشر. إذاً فإن كلمة «متحضر» لا تأخذ معناها السيميائي إلا مقارنة مع كلمة «متوحش» وتقود إلى تسلسل هرمي يصعب التهرب منه.
إن «مركيز دو كوندورسيه نيكولا دو كاريتا» (1743-1794 Nicolas de Caritat marquis de Condorcet )، الذي له مآثر في الدفاع عن حقوق المرأة بالمساواة بالرجل، يعتقد جازماً بوحدة الجنس البشري، ويعترض بشكل جازم على الاستعمار بكافة أشكاله.
ونرى في كتاباته الشجاعة احتراماً لـ«الشعوب الملونة» وتنديداً لا غبار عليه للاستعمار، رغم هذا فإنه لا يمنع هذا «الأنسوي» من أن يعتقد بـ«علو شأن أشعاعنا» الذي كان وراء التحضير للثورة الفرنسية. وقاده هذا الاقتناع إلى أن يعتبر أن «الشعوب المُستَعمَرة تتقدم بسرعة بسبب اكتشافاتنا وما ينهلوه في كتبنا».
وباسم هذه الحضارة التي ترفع رايتها أوروبا، وبشكل خاص فرنسا، يشرع كوندورسيه ضرورة «رفع الشعوب الأخرى إلى مستوى شعوبنا». فقط يضع شرط عدم استعمال القوة، دون أن يمنع هذا عدداً من المسؤولين الأوروبيين في الجمهورية الثالثة والرابعة من خرق هذا الشرط سعياً وراء أرباح مادية بحجة «مهمة تحضير الشعوب».
في نهاية القرن الثامن عشر قامت في فرنسا وبريطانيا حملة ضد تجارة الرقيق والمستعمرات قادها تيار ليبرالي من أدام سميث (Adam Smith) إلى إدمون بورك (Edmund Burke). قوام هذه الحملة أن إجبار المستعمرات على ممارسات تجارية معينة يعتبر خرقاً للأسس الليبرالية.
بعد نصف قرن، ورغم اعتناق الفلسفة الليبرالية، فإن مثقفين مثل جيمس ميل (James Mill) وجون ستيوارت يل (John Stuart Mill) وحتى ألكسيس دو توكوفيل (Alexis de Tocqueville)، ارتضوا فكرة «التوسع الأوروبي». وترى الباحثة جينيفر بيتس (Jennifer Pitts) بأن هذا «الانقلاب لصالح الامبريالية» سببه «تراجع نظريات التعددية وتقدم نظريات التخلف وبالتالي تفرع أكثر حدة بين البربرية والحضارة».
لم يكن أدم سميث يعتبر أن ثقافة تتفوق على أخرى، وكان يختصرها كما يلي: التمايز بين المعتقدات والعادات يعود إلى تمايز في الحالات. كان يندد بكل فكرة تشير إلى تفوق المجتمعات الأوروبية.
ولكن خلال عقود قليلة برز تفوق الدول الأوروبية لأسباب عديدة، منها الثروات التي جنتها من أميركا والتجارة المثلثة بين أوروبا وأفريقيا والعالم الجديد، والتقدم التقني في المعدات الحربية. وقادت هذه القدرات العسكرية والغزوات إلى تأكيد فكرة التفوق ليس فقط في الشأن العسكري والاقتصادي، ولكن في الشؤون الثقافية والأدبية الأوروبية أيضاً، التي يرى البعض فيها علاقة تعود إلى العصر اليوناني. وهو ما سمح للأوروبيين، بـ«التصرف كما يحلو لهم في المناطق الهمجية»، حسب ما تكتب بيتس. وسوف تكون فلسطين أحد حقول التجربة هذه. كما برز هذا التحول في السياسة البريطانية تجاه الهند، فبعد فترة، بدأ الإعجاب بحضارة هذا البلد يتراجع.
ويقول المفكر الهندي «ديبيش شاكرابارتي» (Dipesh Chakrabarty) إن هذا التحول رسم في تفكير الأوروبيين صورة الشعوب غير الأوروبية وكأنها «في غرفة انتظار خيالية للتاريخ» وهي تعبر عن مقياس الفارق الحضاري بين الغرب واللا غرب، وبات لسان حال الأوروبيين في القرن الثامن عشر «إنهم من الماضي ونحن المستقبل»، في إشارة إلى الحضارات السابقة. وهكذا فإن بدائيي استراليا يشبهون أجدادنا في مرحلة ما قبل التاريخ، إلا أنهم لم يتطورا كما تطورنا.
وهكذا بات «قانون الاستعمار قانوناً طبيعياً»، لا بل بات واجباً، من أستراليا إلى الجزائر مروراً بالكونغو والهند الصينية. يقول هنري لورانس (Henry Laurens) في فلسطين «كانت مهمة تحضير مقدسة»، ولكن بعكس الحالات الاستعمارية، فإن الفلسطينيين ليسوا في «غرفة انتظار» التاريخ ولكن في غرفة انتظار النفي.