حسن قري تفكيك للمجتمع والغوص في أعماقه
كثيرون من بني البشر فكروا لو يستطيعون الإطلالة يوما على هذا العالم بعد رحيلهم عنه بالموت. فيتعرفون إلى أحوال من فارقوهم، وكيفية نظرتهم إليهم. ويرون إن كانوا ما زالوا يحافظون من بعدهم على عاداتهم التي كانوا يحبونها؛ خبزا، وقهوة، وأطباقا شهية. ويشاهدون مطمئنين أنَّ كل شيء ما زال على ما هو عليه، حركة، وهدوءا، ورتابة، وقتلا للوقت.
أليست مجتمعاتنا مجتمعات الركود المُطلق الذي لا يُريد أن يتحرك فيها شيء…؟ والتي هي أشبه بالزيت مع الماء في زجاجة، كلما أصابت الزجاجة ارتجاجة اختلطا ببعضهما، فظن القوم أنها العاصفة والتغيير، وما هي إلا بُرْهة حتى يعود كلٌ إلى وضعه، بينهما برزخ لا يبغيان…!
أوليست مجتمعاتنا خير من حافظ على الترَّهات، وغلفتها بأغلفة أسْمَتْها عِنْدًا وجَهْلا: أصالة، وتقاليد. وتتشبث بها، ولا تريد التخلي عنها، ولا أن تنفضها عن أثوابها لتعبر إلى المستقبل…؟!
ولطالما هذا هو حالنا، فليعبر إذا من رحلوا من برزخهم إلينا، لكي يُلقوا علينا نظرة تحسُّر، وسُخْرية مُرَّة. وبالتالي نُطمْئنهم بدورنا أننا والحمد لله، لم ولن نتغير، وما زلنا كما تركونا؛ تخلفا، وتقهقرا، وجهلا، دون أيِّ تبديل. ونعض على الثبات بالنواجذ والأضراس…!
لقد شكلت مجمل هذه الأفكار المحور الأساس بالنسبة إلى الكاتب المغربي حسن قرى في مجموعته القصصية الجديدة « نحيب ميت »، الصادرة عن منشورات كنانيش في مراكش. حيث شرِّح من خلال سطورها جثة المجتمع، باحثا عن مواضع الألم، ليخرجها من الأعماق، عارضا إياها، ومركزا على موضوع الموت وقدريته في سطورها. أوليس الموت هو البوصلة التي يتجه إليها ونحوها الإنسان منذ أن يرى النور، ويخرج إلى الحياة…؟
فالموت ليس خبرا نتلقاه أو يزفه لنا كما فعل ألبير كامو في روايته الغريب. بل هو حالة عامة أخلاقية وإنسانية تعيشها مجتمعاتنا وفسيفسائها الإنساني. ولهذا يتربع على سطور هذه الأقاصيص كعامل مهم، كما يتربع تماما على جبين حياتنا، ومفاصل أحداثها. ليعطينا أيضا صورة إيجابية عن الموت، جاعلا إياه أحد أهم العوامل الدافعة لنا إلى الحياة والتنعم بكل ما يدور من حولنا.
هذا ويأخذ موضوع الموت عدة وجوه في هذه الأقاصيص، كما في حياتنا كبشر. وحتى عندما لا يتحدث الكاتب في سطوره عن الموت، فإن القارئ يُحِسُّ بألم يقارب الموت، بل أشد منه أحيانا. فهل هناك أشد ألما من موت الأمل في العيون والأصلاب قبل ولادته…؟ أو في غرق الأحياء في حالة موت جماعي…؟
تتألف هذه المجموعة القصصية من واحد وعشرين أقًصوصة، تحضر فيها مدرسة الرمز بقوة، إن كان من خلال مُجْريات القصص وووقع أحداثها، أو من خلال اختيار الكاتب للشخصيات والتفاصيل. وكل أقصوصة تأخذ دورا تقوم به، وتؤديه على أتمِّ وجه، في وحدة متكاملة مع بقية الأقاصيص، فتتنقل في دواخل القارئ ما بين قلبه، وعقله، وفكره، وروحه. فتُحْدث صوتا وضجيجا هنا، وتوقظ هناك كل مشاعر الغضب والسخط لديه على من يُمْسكون بخيوط القرار من فئة الكبار، وكبار الكبار… أما هنالك فإنها تهُزّ ياسمينات في بستان روحه لينتشر ضوعها، مُذكرا بوطن، وأم، وطفولة، وأخت، وأخ، وصديق. بل بامرأة أنثى، حبيبة، ليست ككل النساء…
يتطرق الكاتب من خلال أقاصيصه هذه إلى مشاكل مجتمعاتنا؛ ثقافة، واقتصادا، وتعليما، وعادات اجتماعية. فيتعرض إلى كل مناحي حياتنا باختصار على شكل برقيات، تتناسب ووضعية السرد في أقاصيصه. برقيات يُرْسلها إلى كل من يهمهم الأمر، وفي كل الاتجاهات. يُرسلها إلى كل أولائك الذين سوف يقرأون أقاصيصه وسردياته، وأيضا إلى الذين يساهمون في تخلف، وتقهقر مجتمعاتنا، ولكنهم للأسف لا يقرأون إلا شبكة الكلمات المتقاطعة القادمة من بلاد العم موليير، ويؤرِّقهم عدم القدرة على حلها، أكثر مما يؤرقهم هموم المواطن الذي يئنُّ تحْتَ سيف الفقر والحرمان…!
وكلما خطى القارئ في هذه المجموعة القصصية خطوة نحو الأمام، كلما شعر بعمق العنوان الذي اختاره الكاتب لسردياته، وشعر أيضا بأن الألم قسيم روحه من جراء ما يدور من حوله من أحداث، تستحق فعلا أن يبْكي الأموات على ما نحن فيه…! وكما قرَّر الكاتب الكبير فيديريكو غارثيا لوركا أن الموت هو أحد الحقائق البديهية التي لا يمكن نكرانها، فإن الكاتب حسن قرى جعل منه المدخل إلى فهم مجتمعاتنا ومعضلاتها من خلال أسلوب التوظيف، والإسقاط. وأيضا من خلال الموقع الذي نعطيه له في حياتنا فيقول: “على مدى تاريخنا الطويل لا نحتفي إلا بثقافة الموت”… بينما استبدل الآخرون كل ذلك بثقافة الحياة وحبها والتنعم بها والعيش بكرامة.
وتطل من عالم الأموات على عوالمنا، شخصية أولى أقاصيصه، في رمزية تأخذ أبعادا مؤلمة إلى حد بعيد. فتعايش أحوالنا دون أن يحس بها أحد، في عملية تبدل في المواقع، والدور، كمطل من عالم الأحياء على أهل الكهف في كهفهم والذين بالرغم من مضي السنين الطوال على موتهم فإنه لم يتغير في عوالهم وتفاصيل حياتهم شيء…! مؤكدا بسخرية مُرَّة مَرارة المُعاش في مجتمعاتنا. وأن بقاء الأفراد على قيد الحياة أو عدمه، يشبه إلى حد بعيد بيدقا (جنديا) انهزم وخرج من على رقعة الشطرنج، فانعدم تأثيره كيانا ووجودا وانتهى، طالما أن كل شيء في مجتمعاتنا يتمحور حول شخص واحد؛ هو الحاكم، المتقمص لشخصية الإله الآمر والناهي، والكاتب للتاريخ، والمحدد للأطر الجغرافية، ولمساحات الحرية، ومرات التنفس للفرد وللجماعة… لتبقى أحلام الفقراء والبائسين مجرد أحلام تمر على مساحات عقولهم، كمرور الغيوم في السماء، لتمطر بعيدا بعيدا، فلا تصل بالتالي رطوبة مطرها لجيوبهم، ولا لخزائنهم التي تبقى دائما فارغة…!
بينما يؤكد في قصة أخرى، أن الجُرْذان ستبقى تستولي على أسماك الصيادين في غفلة منهم، وأنهم كلما نظروا إلى أيديهم فلن يجدوا إلا خيطا وصنارة سمك فقط…! وأنهم سيجدون أنفسهم أيضا في غربة داخل أوطانهم، وأن المنفى الذي في ظاهره اختياري، إنما هو إجباري في حقيقته. بل مفروض على كل من عَشِق الحرية وأحب وطنه بصدق… وأن المواطنين لو تلفتوا من حولهم لوجدوا شرطة؛ للمُهربين، والمُخالفين، والمُعارضين، وأيضا لقراء الكتب المثقفين… الذين هم هدف أساس بحد ذاته، فيُلقى القبض عليهم، ويُدْخلون سجْنا، أو قُمْقُمًا لا يخرجون منه مطلقا…
ويتابع الكاتب إسقاطاته أو بالأحرى عزفه، وكلما وضع أصبعه على وتر، خرجت مقامات على سلم موسيقى الآهات. فيحاول إسماعنا بعضها، فيحكي لنا عن معاناة الكتاب، والمثقفين، وهم يبحثون في ثنايا جيوبهم عن مبلغ بسيط لطباعة كتاب. بينما تتساقط الأوراق النقدية في ليلة واحدة كمطر على صدر مغنية ومؤخرتها في حفل زفاف، تعادل كل ما سيتقاضاه مدرس، ومنشئ عقول، طيلة حياته الوظيفية…!
وبهدوء ودون انفعال، ينقلنا إلى مشاركته في البحث عن إجابات لأسئلة تؤرقه. صاغها من خلال عباراته سُلما موسيقيا أنيقا، يعيد للملح طعمه، وللسكر حلاوته. ويحول دون قتل المشاعر في عيون الأمهات. ودون اغتيال العاشقين بسادية فجة بسبب نصوص أخرجها جاهلون مُتنطعون من كتب صفراء عمرها مئات السنين، ولا يرى من أخرجها إلا ما يريد أن يراه هو…!
مجموعة قصصية من الممكن اعتبارها مراجعة لعلاقة الكبار على مختلف فئاتهم، بالشعب، ولعلاقة أفراد المجتمع ببعضهم. وإعادة ترتيب لكل المنظومة من خلال قناعات وأفكار ليست طوباوية، ولكنها إنسانية محضة. ترى الواقع بقلب من لحم، ودم، وروح شفافة نورانية، لا من خلال سيوف وسكاكين، ومصالح مادية. وتطرح الواقع كما هو دون زينة وزخارف. لأنه كما أفسدت الزينة وجوه الجميلات في بلادنا وزيَّفتْها، فكذلك أفسدت على الناس أذواقهم، فأصبحوا لا يستطيعون رؤية الأشياء على حقيقتها، فيقول واصفا:
« … أما نحن فجيل يأكل من حذائه، ويتدثر بسروال من جينز لا يستر حتى عجيزته. تملأ رؤوسه ألوان من موسيقى الراي والبوب والراب، وينشغل في أخذ السلفيات مع الأطعمة والموتى ورفيقات ورفقاء الجنس المجاني. ويعبر بلغة لا يعرفها سيبويه ولا التوحيدي، ولا يفك شفرتها لا بارت ولا لوي التوسير ولا سيغموند فرويد »…
* كاتب لبناني مقيم في باريس