قلق اسرائيل له أسباب موضوعية
لطالما كانت اسرائيل من الدول العظمى التي يهابها العالم أجمع، فهي القوة التي لا تهزم، والجيش الذي لا يقهر عند الكثير. وحالياً تشهد اسرائيل العديد من التحديات الأمنية والعسكرية ، إن كان في الداخل أو على الحدود الفلسطينية المحتلة. وهذه التحديات لم تكن يوما بعيدة عن تهديد الكيان الغاصب، فإسرائيل هي قوة احتلال ولا يمكن ان تتعرض لتهديدات، لكن الواقع يشير الى عكس ذلك فالعدو الإسرائيلي بات الآن يخاف ويقلق أكثر من أي وقت مضى، وذلك بسبب العديد من الأسباب الداخلية والخارجية.
ومن الاسباب الداخلية:
تدني مكانة الجيش في الوعي الثقافي للبيئة الإسرائيلية على عدة مستويات، أبرزها ما قاله رئيس هيئة الأركان السابق “أمنون ليبكين شاحاك” في خطاب تأبين “إسحق رابين” حول العلاقات بين المجتمع والجيش، التي كانت قبل عقد أو عقدين مفهومة بحدّ ذاتها، تتصدر اليوم مركز قلق المؤسسة العسكرية، التي تعتبر الحفاظ على مكانتها في الوعي “الإسرائيلي” مهمتها الرسمية. ولقد أثرت حرب 1973 على الجيش الإسرائيلي حيث تقوضت مكانته كجيش لا يمكن أن يخطئ.
من ناحية أخرى بات المجتمع الإسرائيلي بحد ذاته لا يؤمن بأن “جيش الدفاع الإسرائيلي”، الأقوى في العالم، على العكس، فإن الإسرائيليين اليوم أكثر خوفاً، ولم يعودوا يؤمنون بالقدرة العسكرية الإسرائيلية. وأفاد استطلاع للرأي أجرته صحيفة “هآرتس” بأن ثقة الشباب الإسرائيلي في الجيش، انخفضت بنسبة 7% خلال السنوات الأخيرة، ما أزعج القيادة العسكرية، التي أجرت استطلاعات سرية أعطت نتائج مشابهة، وأقيمت لجنة خاصة لمعالجة المشكلة، ومنع تدهور الوضع أكثر.
قسم علوم السلوك والذي يدرس مواقف رجال الجيش، سأل رجال الخدمة الدائمة: كيف يُنظر إلى المهنة العسكرية في أعين الإسرائيليين؟
عام 2005 أجاب 61% منهم أن المجتمع المدني يرى فيها مهنة “اعتبارية”، وبعد عامين، عام 2017، قدّر 16% فقط أن مهنتهم “اعتبارية”، ويقتنع الباقون أن الجمهور ينظر إليهم كـ”كومة من المتعطلين”. ومع مثل هذه الإحصاءات القاسية يرى الخبراء أنه من الصعب بثّ روح ايجابية في الجيش، وزاد ذلك في أعقاب حرب غزة الأخيرة، حيث سمعت انتقادات موجهة لقائد الجيش وضباط هيئة أركانه، عبرت عن غضب وخذلان سُمع من أفواه الجنود، بعد التشويش في اتخاذ القرارات، والإحساس بالضياع لدى غير المدربين وقليلي التجهيز، والأوامر المتضاربة والمتغيرة باستمرار، وقلة التنسيق، وعدم الفهم للمهمات والأهداف، وهي عوامل أدت إلى فقدان الثقة بالقيادة العسكرية، ولذلك، لم يكن غريباً أن كثيراً من الجنود الإسرائيليين قالوا بأنهم إذا دعوا مجدداً للحرب، فلن يُلبوا الدعوة!
باتت الحالات النفسية والمرضية ظاهرة متفشية في الجيش الإسرائيلي، ولا يقتصر الأمر على من يلتحق به للمرة الأولى، فهناك ارتفاع كبير في نسبة الذين يتركونه بعد مضي فترة من الخدمة، وهناك من يخدمون ويعانون من مشاكل، ورفعوا دعاوى ضدّ وزارة الحرب باعتبار أن ما يمرون به أثناء العمليات العسكرية يسبب لهم ظواهر مرضية، كما تطالب نسبة كبيرة ممن أحيلوا للتقاعد بتعويضات نتيجة ما سببه الجيش لهم من مشاكل نفسية أثناء خدمتهم.
بلغة الأرقام، تتسع نسبة المرضى النفسيين بين جنود الجيش سنوياً، وبلغت سنة 2012 واحد من كل ثمانية جنود، يحصلون على تقارير تؤكد معاناتهم من أعراض نفسية، وتشير الإحصاءات إلى ارتفاع النسبة 60% مقارنة مع عام 2002، وأدى ارتفاعها وسهولة التعامل معها لخلافات بين المسئولين، وجهت خلالها اتهامات لمن يتعامل بتساهل مع هذه الشريحة من الشباب اليهود دون سن 18 عاماً.
في ذات السياق، واستمراراً لهذه المشاكل النفسية، فقد انتشرت ظواهر الانتحار بين صفوف الجنود، ما دفع بمراقب جهاز الأمن العقيد “يوسي بن هورين” فتح تحقيق حول عمليات الانتحار في الجيش بعد إثبات عجزه عن معالجتها، ودفع تزايد الظاهرة إلى إبلاغ الجيش للكنيست عن عدة خطوات لمواجهتها،ما جعلها تشكل أزمة حقيقية في إسرائيل. حيث رأى رئيس هيئة الأركان “أشكنازي” بأن عليه أن يتكفل بعلاج هذه التحديات قبل أن يسوء الوضع أكثر فأكثر.
كما ظهرت زيادة في تدهور “المادة القتالية”، وهم أعضاء القوات المسلحة، فقيادتهم ترى أن استمرار المواجهات العسكرية مع قوى المقاومة الفلسطينية سيؤدي لتصعيد فقدان المقدرة القتالية، وانخفاض الروح المعنوية، والإحساس العميق بالخوف واليأس.
وجاء في إفادة لجندي عائد من الخدمة على حدود قطاع غزة: “كان ذلك كابوساً حقيقياً، غزة أصبحت “عشاً من الدبابير”، وأنا أفضل خدمة شهرين على الحدود مع لبنان، على الخدمة أسبوعين على حدود غزة، كلما تذكرت أني سأعود لهذه الأماكن المقيتة اعترتني قشعريرة، وتصبب العرق من جبيني”!
والى جانب الاستعداد للحرب، ترى أوساط عسكرية أنه ينبغي القفز عدة درجات بمستوى الأداء القتالي المهني، ويجب العودة إلى تعليم أمور في التدريبات العسكرية من الأساس، وليس فقط للجنود، بل أيضاً للقادة. وعلى سبيل المثال، يحتاج جيش الاحتياط للبناء من جديد، بعد سنوات طويلة من الإهمال، فقد جرى حديث غزير عن إرسال جنوده لحرب غزة الأخيرة 2009، دون أن يتلقوا ما يكفي من تدريبات، لكن بعد أزمة الحرب، تؤكد محافل عسكرية أنه لا يكفي الاهتمام بالتدريبات فقط، بل توجد حاجة لإعادة الثقة، لأنه بدونها ستتزايد عمليات رفض الخدمة، والتمرد على أوامر الاستدعاء للاحتياط.
وجرى الحديث عن تقرير سري حول الأوضاع النفسية والمعنوية في الجيش، أثار قلقاً كبيراً لدى الحكومة، بعدما أظهر أن حالة الإحباط واهتزاز الثقة التي سادت الجيش إثر الحرب الأخيرة، دفعت 50% من الجنود للتفكير في ترك الجيش، والبحث عن عمل آخر.
واحتوى التقرير على نتائج استطلاع رأي أجري في صفوف الجنود، دلّ على وجود أزمة ثقة متفاقمة بينهم وبين قيادتهم، وحين سُئِل جنود الاحتياط عن نظرتهم ومدى ثقتهم واحترامهم لقادتهم، قال 25% إنهم يثقون، وحين وجه السؤال للجمهور العام، لم تزد نسبة الثقة كثيراً، وقال 40% فقط إنهم يثقون بقيادة الجيش.
وهو ما دفع بوزير الحرب “باراك”، ورئيس الأركان “أشكنازي”، لحمل هذه المعلومات لرئيس الوزراء “نتنياهو”، ومطالبته بالتعاون معهما في تنفيذ خطة لإعادة ترميم الروح المعنوية للجيش، عبر التدخل لدى وزارة المالية لتخصيص ميزانية خاصة لتمويلها، بقيمة نصف مليار شيكل، ما يعادل 125 مليون دولار.
ومن الأسباب الخارجية التي أضعفت اسرائيل:
– انتصار الدولة السورية بقيادة الرئيس بشار الأسد الذي شكل صاعقة لمخططات الكيان الإسرائيلي، فسوريا انتصرت و بعد ما كانت تسيطر على 15% من الأراضي السورية اصبحت تسيطر على ما يزيد عن 80% من هذه الأراضي.
وجاء تعليق عضو مجلس الشعب السوري، أنس الشامي، على تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، عن انتصار الرئيس السوري بشار الأسد، في الحرب الدائرة في سوريا في مكانه الصحيح حيث رأى “إن هذه التصريحات قراءة تحليلية واقعية يدركها القاصي والداني بعد صمود الدولة السورية والرئيس بشار الأسد”. وأضاف “هذا يعني أن ثمة دول إقليمية وخارجية سوف تعمل على فتح قنوات دبلوماسية مع الحكومة السورية بعد وقوف الحلفاء إلى جانب سوريا، والانتصارات التي حققها الجيش السوري”
وأردف الشامي، قائلا “إن من أهم العوامل التي تدفع هذه الدول إلى التقارب مع الدولة السورية هو مكافحة الإرهاب الدولي، لأن الجيش العربي السوري والاستخبارات السورية باتت تملك خبرة واسعة في هذا المجال، ولا سيما التنظيمات الإرهابية التي أنشأتها في الأساس دول استخباراتية غربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية”. وهكذا استطاعت الدولة السورية ان تنسج علاقاتها الدولية من جديد وأن تستعيد حدودها مع لبنان والأردن وفلسطين ومعظم الدول .
من جهة اخرى، تنظر “اسرائيل” بعين القلق للتحول الاستراتيجي في قدرات حزب الله، لناحية الخبرات التكتيكية والميدانية التي اكتسبها من مواجهة جحافل التكفيريين الذين يمثلون دولاً كبيرة وقادرة ويستفيدون من دعمها، ولناحية امتلاك الحزب أسلحة وقدرات عسكرية، لا تعلم عنها “اسرائيل” الا انها فعالة وكاسرة للتوازن، وذلك استناداً الى معادلة التطور العسكري التي أثبتها حزب الله في مسار تصاعدي واضح، ظهر خلال كامل الحروب التي خاضها بمواجهة ” اسرائيل”.
مع هذا القلق من حزب الله، والذي يتجلى في مجمل التغييرات التي طاولت استراتيجية العدو، لناحية تغيير عقيدته من هجومية الى دفاعية وما تبعه ذلك من تحصين لجبهته الداخلية ومن تفعيل منظومات حماية اجوائه وكامل مناطق احتلاله من الصواريخ، ولناحية اقتناعه بان الحرب المقبلة لن تكون خارج الاراضي المحتلة فقط بل ستكون حتما داخلها، مع هذا القلق، جاءت الجولة الاعلامية التي نفذها حزب الله بالأمس لوسائل اعلام محلية واقليمية وغربية، والتي اضاء فيها على اجراءآت العدو الدفاعية على كامل حدود فلسطين المحتلة الشمالية، وأرسل من خلالها للعدو ولغيره رسالة واضحة عن امتلاكه خارطة استعلامية كاملة عن هذه الاجراءات على الحدود وفي العمق، وعن جهوزيته في اي حرب تفكر “اسرائيل” بشنها على لبنان، مع احتفاظه بمناورة الغموض التي يمارسها بمواجهة العدو، وعن اسلحته وعن اجراءاته في الدفاع او في الهجوم.
حيث حذر مستشار الامن القومي الصهيوني السابق اللواء احتياط يعقوب عميدرور، من المواجهة المقبلة مع حزب الله، مشيرا الى وجود ثغرات يمكن ان يستخدمها حزب الله للاضرار بـ”اسرائيل”. وفي حديث لصحيفة “هآرتس”، تحدث عميدرور المنتهية ولايته حديثا، عن امكانية ان تتطور الاوضاع الامنية بين اسرائيل وحزب الله نحو الاسوأ، وان تندلع المواجهة بصورة فجائية.
عميدرور المعروف بقربه الشديد من رئيس الحكومة الصهيونية بنيامين نتنياهو، قال “رغم كل التحضيرات والاستعدادات لخوض حرب جديدة مع حزب الله، الا ان لدى اسرائيل وجيشها المنتشر على الحدود مع لبنان، نقاط ضعف في انتشاره العسكري، الامر الذي من شأنه ان يساهم لمصلحة حزب الله، وان يستغلها لمصلحته، في حال اراد الرد”.
كما أن مصادر عسكرية صهيونية اشارت لـ”هآرتس “ان المنظر الخادع على الحدود مع لبنان، يمكن ان يتحول سريعا الى ترد امني ومواجهة، ويكفي ان يتحرش احد الطرفين بالاخر، اسرائيل او حزب الله، حتى تنفجر المواجهة التي ستتسم بانها مميتة ووحشية، وليست شبيهة اطلاقا بما حصل في المواجهات السابقة بين الجانبين”. من جهته اعتبر المتحدث باسم الجيش الاسرائيلي، ان “حزب الله قادر على اطلاق 3000 صاروخ يوميا باتجاه اسرائيل في حال وقعت الواقعة ونشبت الحرب”، مرجحا ان “يستمر تساقط الصواريخ على اسرائيل طوال شهر كامل، الامر الذي يبقي الاسرائيليين تحت رحمة النار، طوال هذه المدة وضمن هذه الوتيرة”.
وفي هذا المجال قال الرئيس السابق للجنة الشؤون الخارجية والدفاع في الكنيست يوفال ستانتيز بعد الانتهاء من سماع شهادات 54 ضابطاً وجندياً شاركوا في الحرب، إن «الصورة التي اوجدتها هذه الشهادات سيئة للغاية». وقال إن عدداً كبيراً من الجنود الذي شهدوا (خصوصاً الضباط) عبروا عن قلقهم من قدرة الجيش الاسرائيلي على مواجهة اي هجوم عسكري من قبل دولة قوية، تملك جيشاً قوياً، مثل مصر وسوريا». لقد سقط مبدآن في الحروب الاسرائيلية، بعد الحرب على لبنان: الاول: «تصدير الحرب الى اراضي العدو وعدم السماح بحصولها على ارض اسرائيلية»، وقد افشل ذلك تساقط الصواريخ بكثافة على المدن والمواقع الاسرائيلية، ولا سيما في العمق من دون ان يتمكن الطيران من حل المعضلة التي بقيت حتى اليوم الاخير للحرب، ما أدى الى التدخل البري، لا بل ان امين عام «حزب الله» اعلن بعد الحرب في مهرجان «يوم النصر» انه ما زال لدى الحزب اكثر من 30 الف صاروخ. الثاني: مبدأ «الحرب الخاطفة» الذي كانت اسرائيل عبره تحسم الحرب ببضعة ايام بقصف استراتيجي يكسر القوى المقابلة ويشل قيادتها وسيطرتها، مع احتلال سريع يجنّبها التورط في حرب استنزاف. الا ان سلاح الطيران لاقى الفشل الذريع مقابل الوظيفة الاستراتيجية التي باتت لسلاح الصواريخ، وهو الذي اجبر اسرائيل على خوض معركة برية خاسرة ايضاً. يضاف الى ذلك سقوط اسطورة خوض اسرائيل حروب من دون ضحايا اسرائيليين. كما ان ما يعرف بتيار «المتنورين» العلمانيين قد بدأ يفقد موقعه كنخبة قتالية. وما كان يعتد بها كنخبة قتالية مثل «لواء غولاني» لم تعد وحدات نخبة بل اصبحت مجرد الوية.
وبشأن مضيق باب المندب هدد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إيران بأنها ستواجه، حال أغلقت باب المندب، تحالفا دوليا يتضمن جميع صنوف قوات إسرائيل وسيعمل بكل تصميم على منع عرقلة الحركة في المضيق. وقال نتنياهو : “البحر يعطينا فرصا عديدة وفي مقدمة الأمر البحر يزيد من المساحة الجغرافية الصغيرة التي تتسع عليها إسرائيل”.
وأوضح نتنياهو، حسب ما نقله مكتب الإعلامي، أن بإمكان القوات الإسرائيلية نشر قطعها البحرية “على سطح البحر وتحته على مساحة هائلة. هذا يعطي دولة إسرائيل قوة كبيرة جدا””.
وأضاف مشددا: “لو حاولت إيران إغلاق مضيق باب المندب، فإنني على اقتناع بأنها ستجد نفسها أمام تحالف دولي مصمم على منعها من القيام بذلك. هذا التحالف سيشمل أيضا دولة إسرائيل على جميع أجنحتها”. ودعا نتنياهو مرارا في وقت سابق إلى إقامة تحالف دولي في الشرق الأوسط ضد إيران يضم “بلدانا معتدلة” في المنطقة.
و من اشارات الخوف الاسرائيلية الطلب من روسيا نشر جنود على الحدود مع سوريا. و هنا يتسائل المراقبين:
منذ متى تطالب اسرائيل بقوات فصل مع الدول العربية و اليس العكس كان صحيحا؟
وهكذا نجد ان القوة التي ارعبت العالم ترعب حالياً بسبب العديد من التحديات التي تواجهها وخاصة في ظل الأوضاع الراهنة، فهل ستصبح اسرائيل التي تخيف العالم دولة اوهن من بيت العنكبوت وتخاف الغير ؟
وأخيراً لا أرى خاتمة لهذا التحليل أفضل من اقتباس ما ورد في تقرير موسع نشرته مجلة “نتيف” العسكرية “أن الجيش الإسرائيلي ترهل وشاخ وتقادم، وهو واهن العضلات ويتستر بـ”ورقة توت”، كما أن إرادة القتال فيه قد انهارت، والمفعول الانهزامي للانسحابات المتوالية يتراكم، وأصبح يترنح بين ضمور الروح العسكرية واللوذ بالفرار”.
* كاتب ومفكر لبناني