ملف: هل من حروب عادلة؟
ديانا الزين
“لا تُفارق رائحة الدم واللحم البشري المحترق أنفي بعد فهي حُفرت في ذاكرتي، ولا تفتأ صور ضحايا الإصابات المروّعة من البالغين والأطفال حيّة ماثلة تطاردني في أحلامي…” يبدأ طبيب جراحة الحرب «ماركوبلدان» مقاله بهذه العبارات المؤثرة، ويتركنا أمام تساؤلات شتى فيما يتعلق بالحروب.
لا يوجد أبشع من ذاكرة كذاكرة الحروب، فهي تبقى راسخة في فكرنا وقلبنا لما تحمله من أسى وقتل ودمار ومآس تمتد لسنين طويلة. فمن ينسى حرب فيتنام وما تركته من أثر على الجيش الأميركي حتى وقتنا هذا؟ وبالرغم من ذلك، تبقى الحرب حتمية لا يمكن التنصل منها، أو ربما بالأحرى لا يريد أصحاب الغايات الدفينة التخلي عنها.
لنعرّف الحرب أولا، ثم ننتقل للحديث عن الحروب العادلة. وهل هناك من حروب عادلة فعلا؟
في التعريف بأحد الكتب لـ«جميل الحمداوي»، يقول :” الحرب عبارة عن فعل عدواني شنيع تمارسه دولة ضد دولة أخرى، سواء أكان الدافع إلى ذلك شرعيا أم غير شرعي. ومن هنا، فالحرب فعل عنيف يقوم على قوة العدد والعدة، إما من أجل الهيمنة والسيطرة والاستغلال، أو من أجل الظفر بالسلام العادل “. ولا تختلف الحروب العادلة الا بأنها شرعت الحرب وفق قوانين وشروط محددة بما سمي، بحد الحرب وحد العدالة. وهو يعطي الحق لدولة ما أن تبدأ حربا وفقا لأصول معينة. فتضفي بذلك طابعا شرعيا على تلك الحرب.
لقد بدأ هذا المصطلح على ما يبدو عندما ولدت نظرية المسالمة (الباسيفيسم)، وهي التي ترفض رفضا باتا الحرب بكل أشكالها، وقد عرفت الحرب العادلة مع أوغسطينيوس وتوما الأكويني. لكن قبل ذلك، دعم أثناسيوس، الذي كان احد زعماء الكنيسة العنف والقتل قائلا:”إنّ القتل غير مسموح به، أما قتل العدو في الحرب فهو شرعي وجدير بالثناء أيضاً.”
وبعده، وفي القرنين الثاني عشر والثالث عشر، أصبح مفهوم الحرب العادلة قانونيا من خلال اللاهوتي الإيطالي توما الأكويني وأوغسطينوس.ويعرف مايكل ولزر الحرب العادلة ، في كتابه (الحروب العادلة وغير العادلة) بقوله :” الحروب العادلة هي الحروب المحددة والمقننة والمتوافقة مع مجموعة من المعايير والضوابط التي تهدف إلى الحد من العنف أو الانتقام أو العدوان على الساكنة المدنية.” وعلى ما يبدو، فقد وضعت شروط تلك الحرب في الفكر المسيحي على أنها احقاق للعدالة الالهية ليس الا، والقضاء على الشر. وهذا ما طوره توما الأكويني باعتبار أنه من المقبول دينيا مقاومة الأعداء والقضاء على الشر. ما دام ما تهدفه تلك الحرب ليس القتل!
اذا أعطيت للحرب سببا دينيا ولاهوتيا مقدسا. لكن ما هي تلك الشروط؟ وكيف جعلتها الأمم المتحدة جزأ من ميثاقها؟
إن مباديء الحرب العادلة هي: حق اللجوء الى الحرب، القضية العادلة، السلطات الشرعية، النيات الصائبة، الأعلان الجهري، التناسب، الملاذ الأخير، آمال معقولة بالنجاح، وقانون الحرب.
أما القضية العادلة فهي أن يكون الحق الى جانبك، كأن تدافع عن نفسك ضد عدوان معين، وهي تمثل أيضا فكرة الأمن الجماعي. والسلطة الشرعية، هي تلك التي تم انتخابها وفقا للقانون، ولها حق السيادة.
أما بالنسبة للنيات الصائبة، فأول من عرضها هو توما الأكويني، وهي الحرب التي لا يمكن تفاديها وتهدف الى تحقيق غاية محقة. ويجب من خلال التصريح العلني اعلان أسباب الحرب بوضوح، وعرض الشروط التي تؤدي نتيجتها الى السلام. أما التناسب فهو أن تتناسب الأهداف والغايات بالسبل المستخدمة في الحرب.
أما الملاذ الأخير فهو محاولات للأتفاق والتسوية واللجوء الى الأمم المتحدة قبل الشروع بالحرب.
لكن وبالرغم من هذه الشروط التي تبدو غير محددة تماما، هناك أسئلة أساسية تطرح نفسها: هل تعتبر الحرب النووية حربا تناسبية كما حصل في هيروشيما؟ هل تحافظ الحرب العادلة بشروطها تلك في ظل الحروب الضروس التي تحصل حاليا في القرن الواحد والعشرين؟
فهناك من لا يقبل بما يسمى بالحرب العادلة، ويرون أنه لا توجد حرب عادلة أم غير عادلة، فمثلا يرى كريستيان نادو (Christian Nadeau) وجولي سعادة (Julie Saada) أن الحرب بكل مآسيها وبشاعتها لا يمكن أن تكون عادلة. ويرى إيمانويل ليفيناس(Emmanuel Levinas) “أن الحرب السياسية لا تعرف الأخلاق. وبالتالي، تتعارض السياسة كليا مع مبدأ الأخلاق، كما تتعارض الفلسفة مع السذاجة.” فكيف تشن حربا تؤدي الى الهلاك والموت والتشرد باسم الدين؟ ومنذ متى كانت الديانات السماوية ندعو الى الحروب والقتل؟
كما يمكن أن تهدف الى خلق حرب معلنة تعرف بمصطلح “bellum ad jus (تبرير إعلان الحر ب) “مصطلح لاتيني يٌستخدمه منظرو الحرب العادلة للإلشارة إلىً المبادئ الخالقٌة التيً تحكم عدالة اللجوء إلًى الحرب أو عدالة شنها، وحرب مشروعة JUS IN BELLO، من ثم ما يحصل بعد الحرب“Jus اي Post Bellum “وبذلك نكسب الحرب شرعيتها، ظاهريا!
وكما ذكرنا سابقا عن شروطها، فهي تقوم على أسس معينة، ولا تمس المدنيين، وتكون الخيار الأخير، وتتبع الأمم المتحدة في قراراتها. وتمنع من استخدام الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل وما الى ذلك. وتفصل بين المدنيين والعسكريين.
هذا يعني أن الحرب العادلة هي حرب تشن باتباع قواعد أخلاقية باسباب الهجوم، وخلاله، وبعده. أما القانون الدولي فيمنع استخدام القوة ويسمح بذلك في حالتين:” حالة الدفاع الشرعي لرد العدوان طبقا للمادة الواحدة والخمسين من ميثاق الأمم المتحدة، وحالة حق الشعوب المستعمرة في تقرير مصيرها.” فان كانت تقوم على العدالة في غاياتها، وخلالها، وبعد الانتهاء من الحرب ومحاولة القيام بتسويات معينة، فهي تبدو أكثر فلسفية منها قانونية! ويقول في ذلك مصطفى نصار:” إن نظرية الحرب العادلة هي نظرية فلسفية أكثر من كونها قانونية، والواقع أنها هكذا كانت منذ ظهرت إرهاصاتها الأولى في العقائد والفلسفات القديمة….”
فلنأخذ مثالا حرب التحالف على العراق سنة 1991، لقد قتل العديد من المدنيين العراقيين بدم بارد. وحرب الاسرائيلي على غزة تتم لأن” حياة الجندي الأسرائيلي أهم من المدنيين الفلسطينيين .” فقد كتب ياموس عادلين في هآرتس في 6 شباط، أ، الحرب العادلة هي الى جانب اسرائيل لأن الفلسطينيين يختبئون وراء دروع بشرية ويحاربون الأسرائيلي.
وغرد البابا فرنسيس في 2003 على موقع تويتر:” الحرب الوحيدة التي يجب خوضها هي الحرب ضد الشر.” ترى الكنيسة الكاثوليكية أن الحرب العادلة يمكن أن تحصل ضمن شروط قاسية، لكن يبدو أن الحروب في القرن الواحد والعشرون قد تعدت شروطها الأساسي.
ومثال على ذلك ما ذكرته جمعية أطباء بلا حدود عن أن المدنيين الـ1300 الذين لجأوا اليها في الرقة، سورية، أكبر دليل على أن الحرب العادلة التي تشنها أميركا على داعش والارهاب لم تهتم بمصيرهم ولا بحالتهم الصحية والنفسية والإنسانية. ويقول أميل أمين في وصف الحرب العادلة ما يلي:” “«الحرب العادلة»، بعيدًا عن الإغراق في أعماق التحليلات اللاهوتية، تقوم على تبرير انخراط المسيحيين الغربيين في الحروب، وطالما وجدت أسباب عادلة تدعو إليها، وأن يكون الهدف منها إقامة السلام العادل.”
لكن ما موقف الأمم المتحدة ازاء هذا كله؟
إن الفصلين السادس والسابع هما فصلان من بين /19/ فصلاً يتألف منها ميثاق الأمم المتحدة الموقع عليه في سان فرنسيسكو بتاريخ 25/6/1945، فيأتي الفصل السادس لمحاولة حل النزاع عن طريق التسويات وما شابه، ويختلف الفصلين السادس والسابع كالتالي: “تتوزع مواد ميثاق الأمم المتحد ةعلى 19 فصلا من ضمنها الفصلان السادس والسابع. كلا الفصلين المذكورين ينظمان صلاحيات مجلس الأمن في مجال حفظ السلم والأمن الدوليين. الفارق بينهما يظهر من عنوانيهما. بينما يأتي الفصل السادس ( المواد 33-38) تحت عنوان ” في حل المنازعات حلا سلميا” فان الفصل السابع (المواد 39-51) يأتي تحت عنوان ” في ما يتخذ من الأعمال في حالات تهديد السلم والخلال به ووقوع العدوان “.
أما بالنسبة للفصل السابع فيبدأ بأن يضع عقوبات معينة على الدول المادة 41 ، الى استخدام القوات البحرية والجوية والبرية اذا استمر النزاع المادة 42.
في البدء، كان مجلس الأمن ينظر في النزاع بين دولتين، ويؤدي الى تهديد الأمن والسلم الدوليين، لكن بعد ذلك، أصبح ينظر الى الخلافات الداخلية التي بإمكانها أيضا أن تهدد السلم الدولي، هذا ما حصل في قراره المتخذ لمواجهة سياسية التمييز العنصري في جنوب إفريقيا عام 1977 وفي عشرات القرارات الصادرة، بموجب الفصل السابع، منذ العام 1991.
“كل قرارات الأمم المتحدة ملزمة، لكن القرارات الصادرة بموجب الفصل السادس لا تتحدث عن استخدام الوسائل القمعية لفرض تنفيذها. وليس بالضرورة أن يؤدي كل قرار صادر بموجب الفصل السابع إلى استخدام القوة. فقرارات مجلس الأمن لا تنص بالضرورة على الفصل أو على المواد المستند إليها، فالمجلس يمارس صلاحياته مستنداً على كل ميثاق الأمم المتحدة. مسألة صدور القرار بموجب الفصل السابع تعني أن مجلس الأمن يشير إلى احتمال استخدامه لصلاحياته المنصوص عليها في الفصل المذكور.
وبالرغم من ذلك، فقد وجهت انتقادات جمة الى تعاطي الأمم المتحدة مع الأزمات الحالية وطريقة معالجتها،وخاصة في الشرق الأوسط، وبالأخص بالقضيتين العراقية والفلسطينية، والمستجد الآن، القضية اليمنية التي يموت أطفالها جوعا.
يعتبر ميكافيلّي بأنّ الأمير النّاجح هو الأمير الذي المستعد دائما لاستخدام العنف بتروٍّ وتؤدة (ميكافيلّي، 1961، 95-98). ويعطي هوبز حججا بأنّ” سلطة الجماعة الاصطناعيّة التي يمكن أن تحقّق هذه السيطرة، على نحوٍ مُرضٍ، يجب أن تُمركَز حول قوّة السّيف (هوبز، 1996، 161-121).” أما نظريّة ماكس فيبر، يكون الأداء السياسيّ هو أن تتم السيطرة على إقليم ما عبر وسائل العنف. فالفاعلون السياسيّون، بما في ذلك الدّول الحديثة، يمكن أن يكون لديهم كلّ ضروب الغايات في الرّأي-العدالة، والسّلام، وشموخ الدّولة.
ومن هنا نسأل أنفسنا: أليس لدينا الحق الكامل في الحياة؟ وهل الحروب القائمة في هذه الأيام تلتزم بالشروط العادلة؟ أين هو العدل في أطفال اليمن الذين يموتون يوميا أمام أعين العالم الصامت؟ وهل الحروب التي قامت بها الولايات المتحدة بحجة 11 أيلول هي عادلة؟يقول الفيلسوف يقول الفيلسوف الألماني نيتشه (وأنت تطارد الوحش احذر أن تصبح وحشا)!
إن الكثير من الحروب التي عرفتها البشرية، لم تكن إلا حروبا همجية لا عدل فيها ولا أسباب مقنعة، وأدت الى خسائر بشرية ومادية جمة.ولم تكن أسبابها إلا مصالح ضيقة وخاصة. وبالرغم من التقدم الكبير الذي شهده عصرنا، فما زال نظام ” الكيل بمكيالين” هو المسيطر،وإن الكثير من الحروب الوحشية التي جرت وتجري، تعري أسطورة الحرب العادلة، وتضع الشعوب أمام مستقبل أسود لما سببته لها تلك الحروب نت آثار تحتاج لسنين للتخلص منها.
نعت هذه الصورة الإنسانية بأجملها، ونفت أن تكون لأي حرب سببا عادلا، وأننا يجب أن نتعظ من الحروب السابقة، التي انتهت كالعادة بالسلم، كوحش كاسر، تجرف في طريقها البشر والحجر، ودمرت ما دمرت وقتلت من قتلت.
وأقتبس عن لسان وزير الخارجية الأميركي جون كيري، خلال زيارته كوبا لمناسبة إعادة العلاقات بين البلدين بعد أكثر من نصف قرن من العداء والحصار، قال فيها: “الماضي رحل، والحاضر مهم، لكن المستقبل أهم!”