جديد: “صنع العدو”
سلام الكواكبي*
هو العنوان الرئيسي لكتاب مهم صدر لمؤلفه بيير كونيسا، الموظف الكبير السابق في الإدارة العليا الفرنسية، والذي كان منوطا به العمل والتخطيط في الأمور الاستراتيجية الدفاعية. وقد تحول هذا الخبير الحكومي إلى باحث وأستاذ علوم سياسية بعد تقاعده من الخدمة، وبالتالي صار بإمكانه أن يفيد تلاميذه والقراء بخبرة فريدة من نوعها في الحياة السياسية وفي العلاقات الدولية بشكل أكثر دقة.
ولكن ما سيرد هنا ليست مراجعة للكتاب المهم والذي صدر بنسخة عربية عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، فهو يحتاج لدراسة موسّعة لأهميته النظرية والعملية. هنا أتطرق فقط إلى توظيف الطرح ذاته الذي استخدم في نقاش طويل احتضنته ندوة علمية جمعتني بالكاتب قبل الأمس في باريس.
تناولت الندوة الوضع العربي في الأيام الحالية مع تمرين على توقعات متواضعة لمآلات هذا الوضع في المستقبل القريب. وتم خلال الندوة استعراض العلاقات الخليجية ومأساة اليمن والمقتلة السورية. استعراض اعتمد على دراسات تاريخية بداية لتمهيد المعرفة، ومن ثم انتقل إلى تحليل المسارات المختلفة بما فيها من تشابه أو اختلاف أو تقاطع أو تبادل.
اعتمد كونيسا، مؤلف الكتاب، في تطوير حجته القوية، على ما استخلصه من دراسته الواسعة كباحث كما من خبرته العملية الثرية كمحلل وراسم إستراتيجيات والتي كانت جزءاً من مهامه خلالها هي التفكير بأفضل الطرق لصنع العدو (أو مواجهته؟) لأسباب سياسية داخلية أو إقليمية أو دولية.
وخلال استعراضه لتحليله السياسي للموقف في المنطقة العربية، فقد اعتبر، وهو العارف المتمكن من الملف السعودي، بأن المملكة تصنع أعداءً وتريد من الغرب الباحث عن أعداء أن يتبنّى عداواتها. وهو بالتأكيد يُشير إلى إيران. كما أنه انتقد بشدة ميل الأوروبيين إلى “العداوة” مع روسيا القيصر فلاديمير بوتين مستخلصاً بأن العداء مع موسكو (هل هو موجود فعلاً؟) ناجم عن عمل إرادوي غربي يسعى لإيجاد عدو توجه نحوه أسهم الاتهامات بالقيام بمؤامرات تزعزع من استقرار القارة العجوز.
ولقد استغرب لماذا يُحارب الغرب “الدولة الإسلامية” بحجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وتطبيق سياسات ظلامية بحق مواطنيها والقيام بالحرب باسم الدين.. إلخ. في حين أن هناك دولة صديقة هي السعودية تقوم “بنفس التصرفات” وبطريقة ممأسسة مع شعبها وشعوب المنطقة ولكنها لا تزعج الغرب في شيء لأنها تزوده بالنفط وتشتري منه السلاح؟ ومن خلال هذه المقاربة التي فيها من الواقع الجزء وجزؤها الآخر مبالغ به، انتقلنا إلى الملف الروسي الذي اعتبر محدثنا بأن سعي الغرب لجعل بوتين عدواً يهدّد مصالحه هو جزء من مسار تاريخي سعت من خلاله كل الدول بشكل فردي أو من خلال تحالفها فيما بينها، إلى “اختراع” العدو ليكون مشجباً تعلق عليه كل الاتهامات كالتي تتعلق بالسلم الدولي كما بالمشكلات الاقتصادية أو التهديدات الديموغرافية.
تعتبر النظرية المطروحة متمكنة بحد ذاتها وبتجرّد نقدي. ولكن ألا يُخشى من أن استعمالها بوعي مضعضع يمكن أن يقودنا إلى الوقوع في فخ نظرية المؤامرة في أبسط تجليّاتها؟ ألا يمكن بالاستناد إليها أن نُعيد النظر في كل الأحداث العالمية كما المحلية؟ فربما ستسمح لنا هذه النظرية، إن جُرِّدَتْ من أي حسٍّ نقدي أو استنسابية مكانية وزمانية، أن نعيد النظر في سيرة الحروب العالمية كما في تاريخ الاستعمار. يمكنها أن تسمح لنا أيضاً بأن نتخلى عن التحسّب من أطماع دول بعينها أو مجموعات دينية / عرقية / مذهبية في مكان ما وزمان ما.
فعندما يقول لي أندريه غراتشيف، وهو آخر المتحدثين باسم الاتحاد السوفييتي السابق والذي كان له السبق بإعلان تفكيك الدولة المنهكة، بأن بوتين بحاجة دائمة لعدو يحاربه لكي يحظى بـتأييد مجتمعي يعتمد على الأنفة الروسية الشهيرة، وبالتالي، فهو يتجاوز بهذا كل أزماته الداخلية البنيوية اقتصادياً ومجتمعياً، ويذهب بأنظار وعقول مواطنيه إلى العدو الخارجي الذي هو أميركي يوما وأوروبي أياماً وتركي يوماً وإسلامي أياماً. فهل أصدقه وهو المؤرخ العالم بالشأن الروسي من الداخل، أم أجابهه بتبرئة بوتين والتأكيد على أن الغرب هو من يضعه في هذه الخانة وبأنه حمل رقيق يكاد القط أن يلتهم عشاءه ما قبل الأخير في الكرملين؟ هل أعتبر بأن تدخله في الانتخابات الأوروبية لصالح اليمين المتطرف أو الشعبويين هو من نسج “صنع العدو”؟ هل إن استخدمت الأنظمة العربية إسرائيل والعداء لها كحجة لقمع شعوبها وسرقتها، وبالتالي “صنعت” منها عدواً، يمكنني أن اعتبر بأن إسرائيل ضحية وليست صاحبة سياسة عنصرية وعدوانية وتوسعية وتدميرية بحق الشعب الفلسطيني؟
وهل إن كانت إيران تتعرض لحرب أميركية غير معلنة بعد نقض أميركا لتوقيعها على الاتفاقية النووية يُبرئ طهران من سياساتها العدوانية ضد شعوب المنطقة من اليمن إلى سوريا؟
نظرية “صنع العدو” مهمة وغنية المضمون والكتاب الذي لم أستعرضه شيق، ولكن لا يمكن لها أن تكون قاعدة لتحليل كل السياسات الدولية. ومن المؤكد بأن الدول تسعى إلى صنع عدو سياسي أو اقتصادي لمصالح محددة، ولكن من المؤكد أيضا أن هناك أعداء للإنسانية وللحقوق وللسلم الدولي.
*مفكر وباحث سوري مقيم في باريس