نهر الكلب
نفّذت مجموعة من الناشطين مؤخّراً مسيرة في نهر الكلب احتجاجاً على الحفريات الجارية في هذه المنطقة، تمهيداً لتشييد مقر لـ”التيار الوطني الحر” عند سفح جبل نهر الكلب، وقالت إن هذه الحفريات تشكّل “جريمة بحق إرث لبنان وذاكرته التاريخية”. في المقابل، أبدى “المجلس الدولي للآثار والمواقع في لبنان” قلقه البالغ إزاء هذه الحفريات التي تحصل في موقع صُنّف في قائمة اليونيسكو الخاصة بـ”ذاكرة العالم” في 2005، وذلك قبل أن يدخل “اللائحة المؤقتة لمواقع التراث العالمي” في 2019.
غُرف “نهر الكلب” بهذا الاسم منذ أكثر من ألف سنة كما تشهد كتب التراث، ومنها “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق” للشريف الإدريسي، و”معجم البلدان” لياقوت الحموي. محلياً، شهد هذا النهر العديد من المعارك التاريخية، وأخذت هذه المعارك بُعداً أسطورياً في الذاكرة المارونية في الأزمنة الحديثة، ويعكس السجال الحاد الذي يدور اليوم حول هذا الموقع صدى هذا البعد، حيث يستنكر المحتجون قيام “التيار الوطني الحر” بتنفيذ مشروع بناء مجمّع كبير خاص به فوق تلة هذا النهر ، “على عقار تابع لدير مار يوسف ضبيه للرهبنة اللبنانية الذي بني على أنقاض برج من الحقبة الصليبية”، وذلك على مقربة من آثار وادي النهر “الواقع على الطريق التاريخية الساحلية التي تربط بين اوروبا وآسيا وأفريقيا، والتي تشمل نحو 23 نقشاً ونصباً”، كما يؤكّد بيان صادر عن “جمعية الأرض لبنان”.
في الحقبة الأموية، نزل أمير الموارنة إلى البقاع ونهبها، “فلما انتهى خبره إلى عبد الملك بن مروان أرسل اليه هدية ولم يزل يمكر به حتى قتله وقتل كثيرين من عسكره، وأحرق القرى وأبعد الموارنة من البقاع، ولم تزل الحروب منذ ذلك الحين ثائرة بين المسلمين والموارنة إلى نحو ثلاثين سنة، ثم ابتنى الموارنة حصناً فوق نهر الكلب جرت عنده موقعة هائلة”، كما نقل محمد كرد علي في “خطط الشام”. وفي زمن الصليبيين، شهد نهر الكلب معارك عديدة، استعاد إبراهيم الأسود فصولها في “ذخائر لبنان”، وقد انتهت هذه المعارك بسقوط بيروت في أيدي الفرنجة. وبعد قرون، تولّى الأمير فخر الدين ولاية الشوف، “واندفع إلى ميدان الحروب منذ أول ولايته، فحارب يوسف باشا والي طرابلس سنة 1598عند نهر الكلب وكسره”. في سنة 1803، شرع الأمير بشير الكبير في بناء قنطرة لنهر الكلب، “فاجترفتها المياه قبل الإنجاز، ثم عاد فبناها سنة 1809″، كما قام بإصلاح درج هذا النهر.
ألواح
ارتبط اسم نهر الكلب بهذه المعارك وهذه المنجزات، كما ارتبط باسم الشواهد الكتابية المحفورة على ألواح مثبّتة فوق صخوره. وأوّل من أشار إلى هذه الشواهد الرحالة هنري موندريل الذي كان أكاديمياً في جامعة أكسفورد، وكاهناً انغليكانياً، ومرشداً لشركة المشرق في سوريا، وقد توقّف ملياً أمام هذه الكتابات المحفورة في نهاية القرن السابع عشر، وسعى إلى ترجمتها في كتابه “جولة من حلب إلى القدس” الذي نُقل تباعاً إلى الفرنسية والهولندية والألمانية في القرن الثامن عشر. اتّضح أن نهر الكلب هو النهر الذي عُرف في العهد الروماني باسم ليكوس، أي الذئب، وتوالت الدراسات الخاصة بشواهده الكتابية. بعد هنري مونديل، توقّف المستشرق الفرنسي، لويس فرنسوا كاساس، أمام شواهد نهر الكلب، وقدّم صورة بانورامية لها في محفورة طباعية نُشرت في كتابه “رحلة إلى سوريا وفينيقا وفلسطين ومصر السفلى” الذي صدر في 1799. في القرن التاسع عشر، قام العالم الألماني كارل ريتشارد ليبسيوس بدراسة الكتابات المصرية، كما قام العالم البريطاني وليم شاد بوسكوين بدارسة الكتابات الأشورية، ونُشر بحثه في 1882. في هذه الحقبة، التقط المصور الفرنسي فيليكس بونفيس، صوراً فوتوغرافية لشواهد نهر الكلب، وساهمت هذه الصور في ذيوع شهرة موقع نهر الكلب في الذاكرة الجماعية الغربية.
لبنان الكبير
في مطلع القرن العشرين، وقبل إعلان دولة لبنان الكبير، نشر الأب هنري لامنس اليسوعي كتابه “تسريح الأبصار في ما يحتوي لبنان من الآثار”، وفيه تحدّث عن نهر الكلب، وحدّد موقعه الجغرافي ومسافة سيله، وقال إن أهمية لا تكمن في هذه المسافة، بل في موقعه، “لأن عند مصبّه مضيقاً لا بدّ من قطعه لمن حاول المرور في سواحل سورية”، وأضاف: “وبالقرب من النهر آثار الطريق الرومانية التي نُحتت في وسط الصخور المطلّة على النهر جنوباً، وقيل ان مرقس اورليوس انطونينوس الملك، وثّر هذه الطريق ووسّعها فدعاها باسمه. أما الجسر، فكان سبقه إلى بنائه انطيخوس الأوّل المعروف بسوتير ملك سورية في سنة 250 قبل المسيح، ثمّ هُدم وأُصلح مراراً، والمعبر الذي يُعرف اليوم بالجسر القديم هو الذي أقامه السلطان سليم خان الأوّل فاتح الشام كما يُستدلّ على ذلك بكتابة عربية رُقّمت في عهده، ثمّ جدّد بناءه أمير لبنان الشهير بشير الشهابي الكبير، وقيل ان الجسر الباقي هو جسر ثان نصبه الأمير بشير بقرب الجسر الأوّل بعد هبوطه”.
بعدها، تحدّث الأب لامنس عن الكتابات الأثرية التي صنعت شهرة هذا الموقع، وقال إنها “عبارة عن خمسة عشر أثراً، أربعة منها خطوط أشورية بالقلم المسماري”، وهي على مقربة من الجسر الجديد باتجاه الشرق، أما البقية “فموقعها على ضفّة النهر الجنوبية”، أوّلها صحيفة بالقلم المصري الهيروغليفي، وقد “نُقش عليها ذكر البعثة الفرنسية التي وردت الشام سنة 1860”. وتلي هذه الصحيفة كتابة بالقلم المسماري، ترافقها “صورة ملك أشوري رافعاً يده”، وتجاورها “صورة أخرى أشورية توارى معظم رسمها”، ثم صورة ثالثة ممحية، و”كتابتان يونانيتان ذهب الدهر بحروفهما”، “وتليهما صورة اشورية أخرى، ثمّ نصب مصري يمثّل أحد الفراعنة منتصباً يقرّب قربانه لإله الشمس راع”، “ثمّ رقيم مصري فيه صورة بعض الفراعة والإله عمون، وأخيرا صفيحة تمثّل ملكاً أشورياً ذا لحية طويلة مجعّدة لابسا رداء سابغ الذيل، وعلى رأسه تاج ملوك أشور، وفي يده اليمنى مقصرة يسندها إلى صدره”.
معركة قادس
بحسب أهل الاختصاص، كان الفرعون رعمسيس الثاني، أوّل من قام برفع صحف منقوشة في هذا الموقع إثر انتصاره في معركة قادس، وتمثّل أولى هذه الصحف الفرعون وهو يفتك بأسير أمام الإله بتاح، وقد نقش الفرنسيون فوق هذا النصب كتابة تشهد لدخولهم إلى هذا القطاع في عهد نابوليون الثالث، إثر الحرب الأهلية التي اشتعلت في 1860. ونقع على نصب ثان يمثّل رعمسيس الثاني وهو يتسلّم عصى الانتصار من الإله راع، ونصب ثالث يمثّل الفرعون منقضا على أسير آخر بحضور هذا الإله. بعد المصريين، سيطر الأشوريون على المنطقة ورفعوا أنصاباً عديدة، منها نصب باسم الملك أسرحدون، ونصب باسم الملك الكلداني نبوخذ نصر. في الحقبة الرومانية، أقام الإمبراطور كاراكلا، نصباً يحمل كتابة باللغة اللاتينية تشير إلى توسعة الطريق على يد الفرقة الرومانية الثالثة، ثم أقام حاكم بيروت بروكلوس نصبا يحمل كتابة باللغة اليونانية تشير إلى إشادة طريق في المنحدر. وفي القرون الوسطى، في عهد السلطان المملوكي برقوق، رُفع نصب يحمل كتابة بالعربية تشير إلى بناء جسر تحت إشراف “سيف أبو العزائم أيطميش البجاسي أتاب العسكر عند برقوق”. وفي نهاية الحقبة العثمانية، رُفع نصب نُقش عليه نص يقول: “شيّد هذا الجسر في ظل سلطان البرين وخاقان البحرين السلطان ابن السلطان الغازي عبد الحميد خان الثاني في عهد صاحب الدولة نعوم باشا متصرّف جبل لبنان”.
دمشق ومدن أخرى
في 1918، أقام الحلفاء نصباً يحمل كتابة بالإنكليزية تشير إلى دخولهم إلى دمشق وحمص وحلب، كما أقاموا نصباً ثانياً يذكر دخولهم إلى بيروت وطرابلس وفلسطين. وفي 1920، أقام الجنرال غورو نصباً يحتفي بدخول فرنسا إلى دمشق إثر معركة ميسلون. وفي 1941، أقيم نصب يحمل نقشاً بالإنكليزية يشير إلى دخول الفيلق الأسترالي إلى المنطقة “لتحرير سوريا ولبنان”. وفي العام التالي أُقيم نصب يحتفي بإنشاء سكة الحديد التي تربط بين حيفا وبيروت وطرابلس في عهد الرئيس ألفريد نقاش. وفي 1946، رُفع نصب “جلاء جميع الجيوش الأجنبية عن لبنان في عهد فخامة الشيخ بشارة خليل الخوري” كما تقول الكتابة المنقوشة. وبعد مرور أكثر من نصف قرن، رُفع نصب تحرير الجنوب، وحمل هذا النصب كتابة تقول: “في 24 أيار سنة 2000 بزغ فجر التحرير في عهد فخامة رئيس الجمهورية العماد إميل لحود”.
بين عهد وعهد، تبدّلت صورة موقع نهر الكلب الجغرافية بشكل كبير. حوّلت الردميات هذا المكان المقفل بالجبل والبحر الى طريق سريع، وشقّت الجرافات نفقاً اجتاح الصخور، وفتح باب المتن على كسروان، ومنها على شمال لبنان. فقد الجزء الأكبر من المسلات التاريخية ملامحه قبل أن يدخل الموقع قائمة اليونيسكو الخاصة بـ”ذاكرة العالم” في 2005، ويبدو أن أعمال البناء الجارية فيه لتشييد مقر لـ”التيار الوطني الحر ستخرجه اليوم من “اللائحة المؤقتة لمواقع التراث العالمي” التي دخلها في 2019.
* كاتب وفنان لبناني