ارنست رينان والشرق*
محمود الزيباوي
لد ارنست رينان في خريف 1832 في شبه جزيرة بروتاني الفرنسية، ونشأ في كنف عائلة ميسورة. تلقى دروسه في المدرسة الاكليريكية حيث برز بتفوقه، وانتقل في الخامسة عشرة من عمره إلى باريس ليكمل دراسته في مدرسة “القديس نيقولا دو شادونيه”، أشهر المدارس الكاثوليكية في ذلك العهد، وكانت تجمع بين أبناء الأريستوقراطية الكاثوليكية الفرنسية والتلامذة الأكثر تفوقاً من الطبقات الأخرى. واصل الطالب الشاب دراسته في هذه المدرسة حتى 1840، وانتقل إلى “اكليريكية ايسي لي مولينو” لدراسة الفلسفة، وانتقل تدريجياً من الدراسات الدينية إلى الدراسات العلمية، حيث شعر بأن العلوم الميتافيزيقية تحدّ من توقه إلى المعرفة.
اتجه إلى دراسة الفيلولوجيا، أي فقه اللغة، من المصادر التاريخية الشفوية والمكتوبة. ودخل اكليريكية سان-سوبليس ليتخصص في دراسة نصوص الكتاب المقدس، وشرع بدراسة اللغة العبرية، وبدأ بتشريح النصوص المقدسة تشريحاً علمياً مجرّداً، ودخل في صراع داخلي مع تنشئته الكاثوليكية، فترك الإكليريكية ليعمل ناظراً في “مدرسة ستانيسلاس” الكاثوليكية لفترة وجيزة، ثم عمل مدرساً في معهد خاص، وواصل دراسته اللغوية، ووضع دراسة حول “تاريخ اللغات السامية” أنجزها في 1847، وفاز بإحدى أرفع الجوائز الأكاديمية، ودخل سلك التعليم الفلسفي رسمياً. هكذا بدأ رينان مرحلة جديدة من حياته، وأنجز أطروحته “ابن رشد والرشدية”، ونشرها في 1952، وتناولت هذه الأطروحة الرشدية اللاتينية وتطورها من القرن الثالث عشر حتى السادس عشر في أوروبا، ثم اقترن في 1856 من كورنالي شيفر، سليلة إحدى العائلات البروتستانتية رفيعة الشأن، وانتمى إلى محفل “شرق فرنسا الكبير” الماسوني، وبدأ اسمه يلمع في فرنسا.
نشر رينان في 1857 تقريراً حول أصول التاريخ الفينيقي، وبعد ثلاث سنوات، عهد إليه نابليون الثالث مهمة إعداد تقرير حول المواقع الفينيقية الأثرية في “سوريا الكبرى”، فقاد هذه البعثة، واختار عمشيت مركزاً لإقامته برفقة زوجته وشقيقته الكبرى هنرييت. تواصلت أعمال الباحثين الفرنسيين على مدى سنتين في صور وصيدا وجبيل وأرواد، وصدر التقرير العلمي العام 1864 في مجلد موسوعي عنوانه “بعثة في فينيقيا”. في عمشيت، شرع رينان في تأليف كتابه “حياة يسوع”، وصدر هذا الكتاب في 1863، قبل صدور “بعثة في فينيقيا”، وشكّل بداية لسلسة من الكتب تناولت “تاريخ أصول المسيحية” في سبعة أجزاء، صدر آخرها في 1883.
المسيح الدجال
قبل أن ينشر “حياة يسوع”، عُيِّن رينان أستاذاً للغة العبرية في “الكوليج دو فرانس” في 1862، واتهم بالإساءة إلى الإيمان المسيحي بعد محاضرته الأولى، وأوقف عن التعليم لمدة أربعة أيام، ودفعته هذه الواقعة إلى الدخول في مواجهة مع السلطة الكنسية الكاثوليكية، وتحوّلت هذه المواجهة إلى حرب عند صدور “حياة يسوع” في صيف 1963. بلغة اليوم، فصل رينان بين “مسيح الإيمان” و”مسيح التاريخ”، وقدم سيرة تاريخية عقلانية ليسوع في 18 فصلاً خلت من أي طابع “إلهي”، وأثار غضب الكنيسة الكاثوليكية التي اتهمته بالتجديف، ووصفته بـ”المسيح الدجال”، وشارك في هذا الهجوم بعض أبرز الوجوه البروتستانتية.
حقّق الكتاب شهرة واسعة، وبات الأكثر مبيعاً في فرنسا لفترة طويلة، ووصف البابا بيوس التاسع مؤلفه بـ”المجدّف الأوروبي” في 1872. انتهج رينان في بحثه منهج ما يُعرف بالفلسفة الوضعية، وابتعد بشكل مطلق عن المنهج اللاهوتي الذي يعتمد المعرفة الإيمانية غير المبرهنة، وسار على نهجه العديد من العلماء والأدباء في السنوات التالية، منهم جبران خليل جبران في “يسوع ابن الانسان”، الصادر في 1928. ولم تعد الكنيسة تخشى هذا النوع من الكتابات، أقلّه في الغرب، فالإيمان على قول بولس الرسول “هو الثقة بما يرجى والإيمان بأمور لا تُرى” (عبرانيين 1:11).
في موازاة سلسلة “تاريخ أصول المسيحية”، أصدر رينان في 1871 كتاباً حول “الإصلاح الثقافي والأخلاقي” في فرنسا، ثم وضع سلسلة من الأعمال الأدبية الفلسفية، كما استعاد ذكريات طفولته وشبابه في كتاب صدر في 1883، وأنجز بعدها خماسية خاصة بتاريخ شعب إسرائيل صدرت بين 1887 و1893. إلى جانب هذه المؤلفات، نشر الباحث خلال حياته مجموعة كبيرة من المقالات والمحاضرات، تتطرّق في بعض منها إلى الميراث العربي الأدبي والفكري، وقد رصد عبد الرحمن بدوي هذا النتاج في كتابه “موسوعة المستشرقين”، وكتب معلّقاً: “كل هذه المقالات ـ الدراسات تكشف عن اطلاع واسع على التراث العربي مترجماً إلى اللغات الأوروبية الحديثة، وعلى عمق في الفهم وسلامة في الحكم والتقرير منقطعي النظير”.
الإسلام والعلم
في هذا الميدان، تبرز المحاضرة الشهيرة التي ألقاها رينان في السوربون بتاريخ 29 آذار/مارس 1883 تحت عنوان “الإسلام والعلم” ونشرها في اليوم التالي. وقد ردّ جمال الدين الأفغاني على هذه المحاضرة في مقالة نشرت في 18 أيار/مايو، وردّ رينان على هذا الرد في اليوم التالي. ميّز العلّامة الفرنسي بين الدين الإسلامي وموقف الإسلام من الفكر الحر، فقال: “هيهات أن أنطق بكلمات مرة ضد أي رمز من الرموز التي حاول الضمير الإنساني أن يجد فيها الطمأنينة وسط المشاكل غير القابلة للحل والتي يقدمها له الكون ومصيره! إن للإسلام جوانب جميلة من حيث هو دين، وأنا لم أدخل أبداً مسجداً من دون أن يستولي عليّ شعورٌ حار، هل أصرّح به؟ إنه الشعور بنوعٍ من الأسف لكوني لست مسلماً”. في المقابل، شدّد رينان على اضطهاد الإسلام للفكر الحرّ، وقال معلّقاً: “ولا أقول إنه فعل ذلك على نحوٍ أشد وطأة من سائر المذاهب الدينية، وإنما لأن ذلك كان على نحو أكثر فعالية”.
وأضاف في موقع آخر: “كل دين موحى به منقاد إلى إبداء العداء للعلم الوضعي، وأن المسيحية في هذا الشأن صنعت صُنْعَ الإسلام. وهذا أمر لا شك فيه. إن غاليليو غاليلي لم تعامله الكاثوليكية معاملة أفضل من المعاملة التي عامل الإسلام بها ابن رشد. إن غاليلي عثر على الحقيقة وهو يقيم في بلد كاثوليكي، رغماً عن أنف الكاثوليكية، مثلما أن ابن رشد تفلسف على نحو نبيل في بلاد الإسلام، رغماً عن أنف الإسلام”. “إن العقل الإنساني يجب أن يتخلص من كل عقيدة قائمة على الخوارق، إن شاء أن يتوفر على عمله الجوهري، إن أراد هو تشييد العلم الوضعي. ولا يستوجب هذا هدماً عنيفاً، ولا قطيعة مفاجئة. ولا يقتضي الأمر من المسيحي أن يتخلى عن مسيحيته، كما لا يقتضي من المسلم أن يتخلى عن إسلامه. وإنما المطلوب من المستنيرين من المسيحيين ومن المسلمين هو أن يصلوا إلى هذه الحالة من الاستواء المتسامح التي فيها تصبح العقائد الدينية غير مؤذية. وهذا أمر قد تم في نصف البلاد المسيحية تقريباً، فلنؤمّل أن يحدث الشيء نفسه بالنسبة إلى الإسلام”.
الدولة المحايدة
ختم رينان هذه المداخلة بالقول: “إن النهضة العلمية في أوروبا لم تتم هي الأخرى بتأييد من الكاثوليكية، وحتى في هذه الساعة الحاضرة، وهو أمر لا ينبغي الاندهاش منه كثيراً، لا تزال الكاثوليكية تصارع من أجل منع التحقيق الكامل لما يلخص القانون العقلي للإنسانية، أعني: الدولة المحايدة التي تقف بعيداً من العقائد التي يظن أنها موصى بها”.
يعود هذا الحديث إلى نهاية القرن التاسع عشر، قبل أن يتبنّى البرلمان الفرنسي الفصل بين الدولة والكنائس بصيغة الجمع في 1905. واليوم، يمكن القول بأن هذه “الدولة المحايدة” انتصرت في أوروبا، أما في العالم الإسلامي، فيبدو الحديث عنها أشبه بالكلام عن أضغاث أحلام لن يتسنّى تحقيقها أبداً.