موت الأمن الجماعي: الحرب على العراق
ادّعى المعتدي الأميركي – وهو عضو مؤسس في الأمم المتّحدة وعضو دائم في مجلس الأمن – وحلفاؤه أنّ لديهم غطاءً قانونياً للهجوم على العراق في آذار/مارس 2003. لكنّ جهودهم الحثيثة لم تنجح في التغطية على الطابع غير القانوني للعملية.
كانت الحجج القانونية اللاحقة لتبريرها متنوعة، لكن أياً منها لم تكن مقبولة. ولحسن الحظ، يبقى صوت ميخائيل غلينون، أستاذ القانون الدولي، الذي يدعي أنّه كان ثمة موافقة بالإجماع من المجتمع الدولي للتخلي عن قاعدة حظر اللجوء لاستخدام القوّة، معزولاً1. ولئن لم يتبعه الممثلون الرسميون لإدارة بوش في ذلك إلى الآن، فإنّهم استخدموا حجتين بديلتين على نفس القدر من عدم الإقناع. فبالنسبة إلى بعض المستشارين القانونيين لوزارة الخارجية الأميركية، يحذو حذوهم في ذلك النائب العام البريطاني وكذلك ممثلو وزارة الخارجية البريطانية، يندرج غزو العراق في إطار إذن باستخدام القوّة يعود إلى عام 1990 وقد بقي سارياً2. والمقصود هو القرار 678 بتاريخ 29 تشرين الأول/نوفمبر 1990، الذي اتُّخذ خلال حرب الخليج الأولى. من خلال هذا النص، سمح مجلس الأمن لجميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة باستخدام كافة الوسائل اللازمة لتحرير الكويت من الغزو العراقي. وكان النص يطالب العراق بالامتثال للقرار السابق، بتاريخ 2 آب/أغسطس 1990 (660)، القاضي بانسحاب قوّاته من الكويت ولجميع القرارات التي اتُّخذت فيما بعد.
تمديد مفعول هذا القرار بعد 12 عاماً والادعاء بأنّ الإذن الذي مُنح حينها باللجوء إلى استخدام القوة يمكن أن يكون ساري المفعول لتطبيق القرار 1441 لسنة 2002 الذي يطالب العراق بقبول عودة مفتشي الأسلحة، يندرج في إطار التحايل الفكري. علاوة على أنّ القرار 678 يندرج هو نفسه في انحراف عن دور ومسؤوليات مجلس الأمن – وهذا الانحراف موضع احتجاج -، فإنّ إعادة تفعيله لم يعد لها أي معنى، بمجرّد تحقّق هدفه وهو تحرير الكويت. لقد كان له هذا الهدف ولا شيء غيره.
آخرون في محيط الرئيس بوش اعتبروا أنّ التدخل في عام 2003 كان قانونياً باعتباره ممارسة للحق الشرعي في الدفاع عن النفس3. بيد أن هذه النظرية القائلة بمشروعية الدفاع الوقائي موضع جدل كبير وليس لها أي أساس قانوني، إذ لم يُعرها الاجتهاد القضائي ولا فقه القانون الدولي جدية، كما خلص عدد كبير من الباحثين – بما في ذلك في الولايات المتحدة – إلى عدم قانونية هذا التدخل4.
تجدر الإشارة أيضاً إلى تحليل آخر كان موضع جدل، قدّمه جزء من أدبيات الفقه القانوني. وفق هذه الأدبيّات، فإنّ مجلس الأمن قام بصورة لاحقة بتقنين استخدام القوة من قبل الولايات المتحدة وما تلاه من احتلالها للعراق5. استشهد بعض الباحثين بالقرارات 1483 و1500 و1511، ليروا فيها اعترافاً بالاحتلال الأميركي بحكم الأمر الواقع، زاعمين أنّ ذلك يُعتبر شرعنة ضمنية للعمليات العسكرية التي أدّت إلى هذا الاحتلال. لكنهم يظلون معزولين، ويتيح ما أدلت به بعض الدول الأعضاء في مجلس الأمن ذاته إزاحة هذا التفسير6.
وأمام حجم الرهان، أي إمكانية زوال منع اللجوء إلى استخدام القوة الذي يُعتبر تقدماً حاسماً في القانون الدولي، فإنّ أدبيات الفقه القانوني الأوروبية قاومت في مجملها وخلُصت إلى أنّ التدخل الإنكليزي-الأميركي في العراق غير شرعي.
رغم ذلك، فإنّ القانون الدولي غير واضح فيما يتعلّق باللجوء إلى القوة المسلحة. في الواقع، تقودنا محاولات ربط التدخّل الخطير لعام 2003 بذلك الذي وقع عام 1991 – والذي يُزعم أنّه كان قانونياً – إلى الرجوع إلى تلك الحقبة. ويظهِر تحليل دقيق للأحداث ولإطارها القانوني أنّ أزمة نظام الأمن الجماعي كانت قد بدأت منذ حرب الخليج الأولى. في الثاني من آب/أغسطس 1990، مع إطلاق صدّام حسين جيشه نحو غزو الكويت – وهو ما يحظره ميثاق الأمم المتحدة – كان على مجلس الأمن الدولي التحرّك باسم الأمن الجماعي الذي تأسس المجلس حوله. وهذا ما قام به من خلال القرار 660 المشار إليه، والذي كان يفرض على العراق الانسحاب. غير أنّ المجلس يفتقر إلى الوسائل العسكرية اللازمة لعمله، وذلك منذ نشأة الميثاق. كان الفصل 43 من الميثاق ينص على أن يحوز مجلس الأمن قوّة عسكرية مشكّلة مسبقاً تتيح له التدخّل باسم الأمم المتحدة. ولمصداقية النظام، كان ينبغي إنشاء هذه القوة وإدارتها بصورة جماعية. غير أنّها لم ترَ النور أبداً، إذ لم تتح ذلك توترات الحرب الباردة المندلعة بُعيد إنشاء الأمم المتحدة. صار مجلس الأمن مقتصراً على التماس آراء الدول عند كلّ أزمة لإيجاد حلول مرتجلة. في الحالات التي أخذت فيها هذه الحلول شكل قوات فصل (الخوذ الزرقاء) دون تكليف بالتدخل، لم يتأثر النظام. غير أنّه في كلّ مرّة دارت فيها المسألة – تحت غطاء الفصل السابع من الميثاق – حول فرض عقوبات عسكرية بحق دولة ما، كان القصور صارخاً. هو الحال نفسه منذ حرب كوريا عام 1950، حين تدخّل الجيش الأميركي رفقة بضعة كتائب من دول أخرى. وكان الوضع نفسه مجدداً في عام 1990. في 29 تشرين الثاني/نوفمبر، أتاح مجلس الأمن للدول الأعضاء “استخدام كافة الوسائل اللازمة” لفرض احترام القرار 660 الذي كان يطالب صدّام حسين بالانسحاب من الكويت. كان يمنحهم إذاً ضوءً أخضر لاستخدام القوة المسلحة، ويطلب منهم فقط إحاطته علماً بانتظام.
على هذه الأسس تحالفت 35 دولة لتقود ابتداءً من 16 كانون الثاني/يناير 1991 عملية “عاصفة الصحراء”. في خمسة أيام، دمّر التحالف الجيشَ العراقي وحرّر الكويت. غير أنّ الأميركيين – المتحكمون في المناورة – امتنعوا إلى ذلك التاريخ عن مواصلة الهجوم إلى بغداد لإسقاط الديكتاتور العراقي. وجرى التوقيع بالتالي على وقف إطلاق النار مع العراق في 28 شباط/فبراير 1991.
هل كانت تلك عملية للأمم المتحدة تستجيب لشروط آلية الأمن الجماعي؟ في الحقيقة، خالف المجلس نص الميثاق وروحه. استند المفسرون المتواطئون الحريصون على إظهار هذه الحرب على أنّها ترتكز إلى القانون، إلى الفصل 42. وهو ينصّ على أنّه في حال لم تُنتِج العقوبات غير العسكرية أثراً (وهو ما كان واقع الحال)، يجوز حينها للمجلس “أن يتخذ عن طريق القوات الجوية والبحرية والبرية من الأعمال ما يلزم لحفظ السلم والأمن الدولي أو لإعادته إلى نصابه”. غير أنّ هذا النص يرد مباشرة قبل الفصل الحاسم (43) الذي يُفسّره على نحو ما، موضحاً أنّه بموجب اتفاقات خاصة، يتعيّن أن توضع القوّات المسلّحة للدول الأعضاء بتصرّف مجلس الأمن. ويليهما فصلان ذوا أهمية بالغة، يؤكدان أنّه في حال استخدام القوة في عملية للأمن الجماعي، من الضروري أن تتنحى الدول الأعضاء لصالح الطرف الثالث المحايد، والذي يجب أن يكون مجلس الأمن. “الخطط اللازمة لاستخدام القوة المسلحة يضعها مجلس الأمن بمساعدة لجنة أركان الحرب” (الفصل 46). وهذه اللجنة “مسؤولة تحت إشراف مجلس الأمن عن التوجيه الاستراتيجي لأيّ قوات مسلحة موضوعة تحت تصرف المجلس” (الفصل 47، الفقرة 3).
كانت روح الميثاق واضحة إذاً. لا يمكن بأيّ شكل تفويض عملية أمن جماعي تشمل عقوبات عسكرية إلى دولة أو مجموعة دول تتحرّك بحريّة مع مجرّد تعهّدٍ بإحاطة المجلس علماً. وإذا كانت قوات الدول الأعضاء هي التي تشكّل بالفعل وحدات مهمة حفظ الأمن الجماعي للمجلس، من المحتم أنّ يتم “نزع الهوية الوطنية” عنها من خلال وضعها تحت قيادة دولية. وهذا ما لم يحدث.
لا يمكن التصديق على حرب الخليج لعام 1991 وفق القانون الدولي، لا سيما أنّه كان ثمة فرصة سانحة أمام المجتمع الدولي لتجاوز المأزق الأساسي. في الواقع، مع نهاية الحرب الباردة قبل ذلك بعامين، زال العائق أمام إبرام الاتفاقات الخاصة التي ينص عليها الميثاق من أجل إنشاء قوة دولية حقيقية. إنّ الإنذار النهائي الذي أُعطي لصدّام حسين في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1990 مانحاً إياه مهلة، كان يسمح أخيراً بتفعيل الفصل 43 من الميثاق الذي ينص على تشكيل قوات دولية تحت إشراف لجنة أركان حرب. لم يحصل شيء من ذلك لأنّ روح التعددية في السياسة الدولية كانت قد ماتت.
لنُذكّر أيضاً كيف أنّ مجلس الأمن الذي أقرّ بداية عقوبات اقتصادية بهدف صريح، هو إجبار العراق على الانسحاب من الكويت، مدّدها رغم حصول ذلك، على شكل حصار قاتل للشعب. في حين أنّه كان يتعيّن رفع العقوبات، والحال أنّ الغرض منها قد تحقّق. لكن المجلس جدّدها طيلة 12 عاماً عبر قرارات تستعرض الشروط الجديدة التي على العراق الإيفاء بها – خاصة على صعيد نزع السلاح – لإنهاء العقوبات.
إضافة إلى التوظيف الذي تقوم به الأمم المتحدة لخدمة مصالح بعض القوى الكبرى، لم يتردد مجلس الأمن في بعض النزاعات في منح تفويض لحلف شمال الأطلسي (الناتو) لتنفيذ عمليات عسكرية باسم الأمم المتحدة (1995 البوسنة، 2011 ليبيا)، في حين أنّ الناتو حلف عسكري دفاعي، موجّه بصورة واضحة لخدمة مصالح بعض الدول، خشية من تهديدات دول أخرى. لم يكن من الممكن لهذا الحلف غير الحيادي بطبيعته توليّ عمليات عسكرية تنفَّذ باسم الأمم المتحدة. يجب أن تكون هذه العمليات من فعل جهة مكلّفة بالمصلحة العامة، لا مجموعة لها مصالح خاصة، حتى تكون ذات مصداقية.
كما نرى، اندرجت حرب الولايات المتحدة على العراق في عام 2003 في إطار تحويل نظام الأمن الجماعي إلى أداة قادت نحو تقويضه. إنّ الحروب الدائرة اليوم في إقليم تيغراي، في شرق جمهورية الكونغو، وفي سوريا، وفي فلسطين، وفي اليمن، وفي أوكرانيا، هي برهنة قاطعة على انهيار هذا النظام. بمقدورنا تقبّل ذلك وحتى، بالنسبة إلى البعض، الابتهاج به وتفعيل إعادة التسليح، بغية التموقع في حرب الجميع على الجميع. ويمكننا أيضاً التأسّف على إخفاق يوتوبيا مؤسِّسة، وقياس تداعيات هذا الإخفاق، لا سيما على صعيد مصداقية القوى الكبرى في نظر دول العالم الأخرى، واعتبار أنّه من الملحّ التساؤل كيف يعاد تفعيلها.
(ترجمت المقال من الفرنسية بديعة بوليلة)
أستاذة فخرية للقانون العام والعلوم السياسية بجامعة باريس سيتي.