هنا لبنان … وداع صحافة “بائدة”
راشد فايد*
لم تنته حياة طلال سلمان بالوفاة. توفي أبو أحمد انتحاراً، وأعلن ذلك على الملء، حين اقفل خلفه باب مكتبه في “السفير”، تاركاً العتمة ترعاه، حسبما كشف الشريط الترويجي لنهاية مهنية لم يستسغها قرّاؤه. لكنه لم يكن أنانيا، فلقد قصد العتمة بنفسه، وأعلم الحاذقين بمغزاها، لو تمعنوا، متعجلاً خيبة تطوي الصفحة الراهنة من المهنة، لم يتنبه إليها آخرون لانشغالهم بالآني، وضيق أفقهم المهني.
سيأتي يوم يؤرخ فيه لنهاية الصحافة المطبوعة بإقفال السفير. قبلها أقفلت صحف، لكن لم تقفل مدارس في الصحافة، علناً وصراحة، لأنها لم تكن تود أن تعلن هزيمتها في مواجهة التقدم التقني، المتوج اليوم بالذكاء الصناعي في مواجهة جمهور الإذاعات المسموعة، ولاحقاً المرئية. على العكس من ذلك، بذلت جهود مضاعفة لتبقي على طليعيتها في السباق للحفاظ على جمهورها، فشهد الإعلام المكتوب “تثبيت” صفحات لم يكن لها مكان في الصحافة المكتوبة، أو مساحة محدودة، كالثقافة والرياضة، والنقد الأدبي والفني، والقضايا السياسية والجدلية، إلى الشأن الاقتصادي، ليس كتغطية إخبارية بل وكتحليل للوقائع، ورصد التوقعات والنتائج.
حين ولدت الراديو توقع الرأي العام أن تختفي الصحف، بسبب بطء وصولها إلى القراء، وسرعة نقل المسموع. لكنها صمدت ولم تتعبها المنافسة، وحين حل التلفزيون كوسيلة إعلام أثار مخاوف الجهتين، لكن الثلاث لم تزحزح الجريدة عن قيادة الإعلام، لأنها لم تغير في شهية الرأي العام إلى المعرفة والعلم بما يحدث في العالم، تحديدا في زمن صراعات الحرب الباردة، والحروب الدولية بالواسطة، وزعامة الأرض والفضاء.
اليوم تصارع الصحافة المطبوعة، في المربع الأخير من حصنها، أي من بقي من قرائها، يقودها الجيل الذي حملها وحملته، منذ أطلقت الثورة الطلابية الفرنسية، والعالمية، الأفكار والأسئلة الكبرى. يكفي أن تجيل النظر في شوارع بيروت لتفتقد المكتبات وباعة الصحف عند تقاطعات الشوارع الرئيسية. قد يكون أحد الإستنتاجات المنطقية أن المجتمعات القلقة لاتقرأ، فكيف إذا رافق قلقها الوجودي، السياسي والإجتماعي، أزمة إقتصادية تضعف قدراتها الشرائية. قد يقول قائل متى لم تكن هذه الأمة قلقة؟ وألم يكن الأمر كذلك في النصف الثاني من القرن الماضي؟
الجواب، أن القلق تلك الأيام تعايش مع وسائل إعلام، تلفزيون، وراديو، توفر تسلية محدودة، بينما وسائل القرن الراهن تعج بالفضائيات وألعاب الكمبيوتر، ومواقع التواصل الإجتماعي، ما يشغل الناس عن القلق، والمعرفة الأكثر عمقاً من مجرّد أخذ العلم. أي يتخلصون من أزمتهم بتجاهلها، بينما أسلافهم كانوا يلجأون إلى الأفكار يتسلحون بها. من هنا غصّت نهاية القرن الفائت بالأحزاب العقائدية، ونجدنا اليوم أحزاباً أقرب إلى العصبيات الأهلية والعشائرية والمذهبية.
المؤسف، أن تهاوي الصحافة المكتوبة لا يفتح الباب أمام إرادة المعرفة، بوسيلة أخرى بل يشق الدرب السهل أمام “علم الجهل” المستجد، فكم عدد من يطالعون، جديّاً، كتبا أو صحفا عبر الألواح الألكترونية،وكم عدد من يستخدمونها للألعاب الألكترونية؟
ما يعزي أن أزمة المطالعة تتخطى نطاق الدول العربية إلى العالمية، فقد دقت دراسة حديثة في الولايات المتحدة الأميركية ناقوس الخطر، عندما أشارت إلى أنّ الطالب الأميركي لم يعُد يُخصص للقراءة أكثر من 6 دقائق يومياً. لكن، يجب ألاّ نجد في ذلك تعزية لنا : فكل 300 ألف عربي يقرأون كتاباً واحداً في العام، فيما نصيب الطفل العربي 400 كتاب ونصيب نظيره الأميركي 13 ألفاً
الحال المستجدة تجعلنا نتساءل هل تحمل كلمتا الثقافة والمعرفة المعنى نفسه لدى الجيل الجديد والأجيال التي سبقت؟
الرد على التساؤل يفترض تحديد مردود التقدم التقني لوسائل الإعلام على تكوين المثقف، وفق الآتي :
أولاً : إن تجميع وسائل الإتصال بتوليفة واحدة، كالآيفون، وما سبقها وما لحقها، سطّح إهتمامات الجمهور الشاب، وشجّع على تلقي المعلومات الحديثة، وإستخدام الألعاب الألكترونية، وتبادل الرسائل النصية، ومشاهدة برامج تلفزيونية، ومتابعة أخبار العالم والمستجدات عن طريق الرسائل النصية أيضاً.
ثانياً : عززت السينما المستعينة ببطون الكتب، اللجوء إلى المطبوع. وإذا كان التلفزيون خفف الإهتمام به، فإن الكمبيوتر لجمه. فالإثنان، بخلاف الكتاب، أكثر جهوزاً لملء الفراغ في الحياة اليومية، وأسهل تناولا.
ثالثاً : فرض تطور تقنيات الإعلام آثاراً واضحة على الحياة الثقافية، فتقدم أخذ العلم بفكرة أو حدث، على الإطلاع المفصّل والمعرفة المعمّقة، ما يسجل كتراجع في الحمولة المعرفية لوسائل الإعلام.
رابعاً : إن تعبير عصر السرعة لم ينطبق على الحياة كما ينطبق اليوم. فوسائل الإعلام الحديثة والمستجدة تشتغل اليوم بمنطق الآنية والسرعة. بينما المعرفة لا تعير قيمة لذلك، وتتخطى الزمان والمكان.
خامساً : إن تقنية المعلومات تزيد من معلومات الناس لكنها لاتعني التحليل والتبيين. أي أنها توفر أخذ العلم بما يجري وليس المعرفة المعمّقة بأسبابه ونتائجه وأبعاده وجذوره ومستقبله.
سادساً : إذا كان المقصود بالمعرفة إمتلاك بعض المعلومات فهذا ما توفره تقنيات الإعلام الحديث، أما إذا كان القصد وصف إكتناه فكرة أو حدثاً فإن ذلك لايتوفر إلا لمن قصد البحث عنها في ثنايا الشبكة العنكبوتية.
ما هي المخارج من أزمة الإعلام هذه، وهل لجوؤه إلى الشبكة العنكبوتية أفضل مردوداً؟
* كاتب مقيم في لبنان
بيروت في 1 أيلول 2023