تجويع غزة بصفته جريمة حرب: عودة إلى “حِسبة” السعرات الحرارية!
الصور والأفلام القصيرة التي تصل من غزة، والتقارير في كل وسائل الإعلام العربية والدولية (التي تقريباً لا توجد في وسائل الإعلام الإسرائيلية)، تتحدث عن القصة المخيفة للجوع والأمراض والعطش والنقص الشديد في الدواء والمعدات الطبية في قطاع غزة. مئات الأطفال يقفون في طابور طويل في أماكن توزيع الطعام بشكل مكتظ جداً وهم يحملون الطناجر والكؤوس والأوعية البلاستيكية من أجل الحصول على الوجبة التي يتم توزيعها بالحصة. السكان يقولون كيف يضطرون إلى جمع الأعشاب من أجل طهي الطعام لأولادهم، الأم التي أنجبت حديثاً لا يمكنها إطعام الرضيع لأنها هي نفسها جائعة ومتعبة. كبار السن الذين هم غير قادرين على الوصول بأنفسهم إلى مكان التوزيع يبقون في الخيمة أو في ملجأ مرتجل ويتوقعون أن ينجح أي شخص في الحصول على نصف رغيف من أجلهم. كل ذلك يترجم بلغة جافة وحارقة إلى جملة صادمة قالها الاقتصادي الرئيس في برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة عريف حسين: “أنا لم أرَ في أي يوم شيئاً يشبه ما يحدث في قطاع غزة وبهذه السرعة”.
هذه الجملة هي مثل الزيت في عظام عدد غير قليل من الإسرائيليين، ومن بينهم شخصيات رفيعة ومراسلون و”مؤثرون”. كل تخفيف في الحصار وزيادة في عدد قوافل المساعدات التي تدخل إلى القطاع تمس حسب رأيهم بالمجهود الحربي. هذا الأسبوع أعلن سكرتير عام الأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، عن تعيين سغريد القاق كمبعوثة خاصة للإشراف على المساعدات الإنسانية في القطاع. هذا التعيين أثار عاصفة شديدة لأن القاق هي مؤيدة للفلسطينيين، وهي متزوجة من الشخص الذي كان وزيراً وسفيراً في السلطة الفلسطينية في سويسرا، أنيس القاق. بالنسبة لمؤيدي التجويع يكفي ذلك من أجل إثبات “مرة أخرى” وجهة الولايات المتحدة. تعيين القاق جاء استمراراً للقرار المخفف لمجلس الأمن في الأسبوع الماضي الذي يلزم إسرائيل بزيادة إدخال المساعدات الإنسانية، والسماح بالنقل السريع والناجع للمساعدات إلى سكان القطاع.
لكن لا يهم أبداً من الذي سيشرف من قبل الأمم المتحدة على التوزيع، طالما أن حجم المساعدات يوفر فقط نحو 10 في المئة من احتياجات السكان في غزة. هذا أيضاً بعد أن سمحت إسرائيل بإدخال المساعدات عن طريق معبر كرم أبو سالم، وبذلك تضاعف تقريباً عدد الشاحنات من 100 إلى 190 شاحنة في اليوم. حسب برنامج الغذاء العالمي، فإن الأغلبية الساحقة من بين أكثر من 2 مليون سكان القطاع، يعانون من نقص الأمن الغذائي، وإذا لم يحدث أي تغيير دراماتيكي في حجم المساعدات حتى شهر شباط القادم، فإن حوالى نصفهم سيتدهور إلى المستوى الأدنى في تصنيف نقص الأمن الغذائي، الذي يعني حالة طوارئ حادة.
معطيات حول الجوع والفقر، خاصة إذا كان مصدرها فلسطيني، هي قصة مشوشة، ويلفها الضباب، ودائماً تكون محل خلاف. هي لا تظهر وجه وجسد الذين يعانون من شدة الجوع أو من الضائقة الصحية. لكن إذا كان وضع الجوع في القطاع لا يهم بشكل خاص حكومة إسرائيل، فإنه يجب عليها القلق من التداعيات القانونية التي يمكن أن تكون لذلك. هذا الأسبوع قدمت وزارة الخارجية الفلسطينية طلباً للأمم المتحدة من أجل الإعلان رسمياً أنه يوجد في قطاع غزة جوع حقيقي يعرض حياة السكان للخطر.. إلقاء المسؤولية على إسرائيل عن “الإبادة بوساطة التجويع”.
أي، جريمة حرب. ميثاق جنيف يحظر استخدام تجويع السكان كوسيلة قتالية. محظور مهاجمة وتدمير الوسائل الحيوية لوجود السكان المدنيين أو تحويلها إلى أشياء غير قابلة للاستخدام، مثل المنتجات الغذائية والمناطق الزراعية المخصصة لزراعتها والحيوانات ومنشآت مياه الشرب ومياه الري. محكمة الجنايات الدولية اعتبرت في 1998 جريمة حرب استخدام التجويع كوسيلة قتالية في النزاعات الدولية.
في العام 2019 تمت إضافة مادتين تعتبران جريمة حرب أيضاً، استخدام التجويع كسلاح في النزاعات غير الدولية، مثل النزاع بين الدول وبين التنظيمات المسلحة. بطبيعة الحال هذه البنود أوجدت تفسيرات قانونية كثيرة ومتناقضة. قضية رئيسة كانت كيف يمكن الإثبات بأن منع الغذاء والماء والدواء ينبع من نية متعمدة وليس نتيجة “طبيعية” للحرب. تفسير مقبول هو أن أفعال من يتسبب بالتجويع يمكن أن تدل على النية دون إعلانه عن ذلك بشكل صريح. إسرائيل أعلنت في بداية الحرب أنها لن تسمح بإدخال السلع من أي نوع إلى القطاع. وزير الدفاع يوآف غالانت أعلن أنه “لن تكون كهرباء وغذاء ووقود، كل شيء مغلق. نحن نحارب حيوانات بشرية، ونحن نتصرف وفقاً لذلك”.
بعد ذلك قصفت إسرائيل معبر رفح الذي كان يجب أن تدخل منه المساعدات إلى القطاع. نشطاء في منظمات اجتماعية في غزة نشروا أنه في الشهر الأول للحرب تمت مهاجمة 30 مخزناً للمواد الغذائية. تزويد المياه من إسرائيل تم استئنافه في الحقيقة فيما بعد، لكن معظم مضخات المياه تعطلت بسبب نقص الوقود. مئات المحلات الغذائية تم قصفها وتدميرها، خطوط التموين لا تعمل، ورغم أن إسرائيل اعتبرت مناطق في جنوب القطاع، بالأساس رفح، “مناطق آمنة”، إلا أنها عملياً ليست هكذا. وهناك صعوبة في نقل المواد الغذائية الضرورية إليها. هل هذا سيكون كافياً من أجل إثبات أن إسرائيل تستخدم التجويع المتعمد واستخدامه كوسيلة قتالية محظورة؟.
في العام 2009 نشر أوري لاو ويتوم فيلدمان في “هآرتس” عن وجود وثيقة باسم “الخطوط الحمراء” التي تم وضعها في عهد أيهود أولمرت عندما كان رئيس الحكومة، استهدفت تحديد المسموح، بالأساس الممنوع، إدخاله إلى القطاع بعد سيطرة “حماس” عليه. بعد نضال قانوني طويل، بدأته جمعية “غيشاه” في تلك السنة، سمحت المحكمة بنشر هذه الوثيقة. المضمون الكامل للوثيقة نشرته عميرة هاس في “هآرتس” في تشرين الأول 2012. هذه وثيقة حسابية مدهشة، حيث تم فيها حساب الحد الأدنى اليومي من السعرات الحرارية التي يجب السماح بإدخالها إلى غزة دون التسبب بمجاعة، بدقة ميزان المجوهرات.
من هنا تم تحديد الأرقام الأسبوعية والشهرية، ومنها عدد الشاحنات المسموح دخولها. النتيجة حسب الوثيقة هي أنه يجب إدخال 170.4 شاحنة في اليوم، من بينها 68.6 شاحنة وزن حمولتها يساوي كمية الإنتاج الزراعي المحلي، إضافة إلى ما وصف بأنه غذاء للأطفال في جيل أقل من سنتين. هكذا حصلنا على النتيجة النهائية وهي 101.8 شاحنة في اليوم. منسق أعمال الحكومة في المناطق أوضح في حينه أن فحص الكمية الدقيقة هدف إلى التأكد من أنه لا يوجد تجويع وأنه لن يكون نقص في الغذاء. الحد الأدنى الضروري لا يعتبر تجويعاً.
وثيقة “الخطوط الحمراء” لم تعد ذات صلة
المقارنة مع العام 2007 لم تعد ذات صلة. بعد الحصار الكامل الذي فرض على قطاع غزة عند بداية الحرب الحالية، فإن إسرائيل سمحت في 21 تشرين الأول بإدخال 20 شاحنة في اليوم (مقابل 500 شاحنة قبل الحرب)، العدد ازداد ووصل مؤخراً إلى 100 شاحنة في اليوم، وتمت مضاعفته في أعقاب الضغط الكبير من قبل الولايات المتحدة. يبدو أنه بحساب بسيط فإن إسرائيل تلبي شروط العتبة لعدم التجويع التي حددت في 2007. ولكن في الوقت الذي وضع فيه جدول السعرات الحرارية في وثيقة “الخطوط الحمراء”، سيئة الصيت، كان يعيش في القطاع 1.4 مليون نسمة. في حين أن العدد الآن هو 2.3 مليون نسمة.
هذا الفرق يجب إضافة إليه الفقد المطلق للقدرة على إنتاج الغذاء محلياً، زراعياً أو ما شابه، الذي في 2007 استخدم كأساس مكمل حيوي في حساب كمية الغذاء المسموح إدخالها. إسرائيل قالت في السابق: إنها مخولة بإدارة “حرب اقتصادية” ضد الأعداء. والآن تقول: إن فرض الحصار على غزة هدف إلى منع إدخال وسائل البقاء للعدو المباشر، “حماس”، وبذلك تساعد في جهود تدميرها. لكن عندما تحدد بشكل خطير إدخال قوافل الغذاء والدواء إلى القطاع بشكل كاسح، فهي تعتبر أن جميع سكان غزة عدو مباشر. وبذلك هي نفسها تسحب أساس ادعائها.
إسرائيل ليست الدولة الوحيدة التي تستخدم مثل هذه الخطوة القاسية. لا توجد حاجة إلى العودة إلى الزمن القديم أو حتى إلى “خطة التجويع” لهتلر، التي أدت إلى موت 4.2 مليون شخص من مواطني الاتحاد السوفياتي سابقاً بسبب الجوع في الحرب العالمية الثانية، أو بولبوت، رئيس كمبوديا، الذي استخدم التجويع الجماعي كجزء من خطة تحويل بلاده إلى دولة زراعية، في 1945 استخدمت الولايات المتحدة عملية “التجويع”، هكذا كان اسمها، ضد اليابان عندما أمر الجنرال تشستر نميتس بزرع آلاف الألغام البحرية حول الموانئ فيها من أجل منع دخول المواد الغذائية. في هذه الثلة نفسها من الدول توجد السعودية واتحاد الإمارات التي فرضت الحصار الكامل على المناطق التي توجد تحت سيطرة الحوثيين في اليمن، وهو الحصار الذي أدى إلى موت عشرات الآلاف بسبب الجوع والمرض، الأمر الذي وصف بأنه “الكارثة الإنسانية الأكثر خطورة في العصر الحديث”. تجويع ملايين الأشخاص في جنوب السودان والإغلاق القاتل على أبناء الروهينغا في ميانمار، والحصار الذي فرضه نظام الأسد على مدن مثل حمص ودرعا وحلب، الذي أدى في الحقيقة إلى استسلامها، لكن ليس قبل أن يقتل الجوع عشرات آلاف السكان فيها. وهكذا أيضاً حصار روسيا على حركة التجارة لأوكرانيا في البحر الأسود. كل ذلك يثبت الصعوبة في التمييز بين التجويع الذي هدف إلى تدمير العدو، الذي يحصل على حماية معينة في القانون الدولي، وبين العقاب الجماعي والانتقامي.
لكن مثل هذه المقارنات، التي لها شروط وظروف مشابهة كما يبدو وتؤدي إلى استنتاجات متشابهة، لن تساعد في حالة إسرائيل. وبالتأكيد محظور أن تشكل الأساس لتبرير التجويع حتى لو لم يكن متعمداً ومخططاً له، كوسيلة قتالية ضد سكان غزة. إسرائيل لا تقلق في الحقيقة من الجوانب الأخلاقية لوسائلها القتالية، من بينها التجويع، لكن على اعتبار أنها تشن حرباً يتوقع أن تستمر لفترة طويلة، فإنه يجب عليها أن تفحص طوال الوقت مستوى شرعية هذه الوسائل في الساحة الدولية، بالأساس في الولايات المتحدة. في اللحظة التي أوضح فيها الرئيس الأميركي أنه يبرر ويؤيد الحرب، شريطة ألا تخرق قوانين الحرب الدولية، فقد قرر أن الجانب الإنساني سيكون جزءاً لا يتجزأ من اعتبارات إسرائيل الإستراتيجية، ورسم حدود الشرعية التي يمكن أن تحصل عليها. بلغة الحساب المحببة على صائغي وثيقة “الخطوط الحمراء” قبل 16 سنة، فإن عدد السعرات الحرارية التي ستدخل إلى القطاع سيحدد عدد الأيام التي تستطيع فيها إسرائيل الاستمرار في الحرب دون اعتبارها مجرمة حرب.
عن “هآرتس”