نتنياهو والفهم الناقص لجدار جابوتنسكي الحديدي
(عن “هآرتس”)
في الخطاب السياسي والجماهيري الذي يرافق الحرب في غزة، التي يقودها بنيامين نتنياهو ووزراء ومحللون، يسيطر الاستنتاج الذي يقول، إنه يجب على إسرائيل ترميم “السور الحديدي”. هؤلاء الذين يؤمنون بهذا الاستنتاج قرؤوا وفهموا الجزء الأول في مقال زئيف جابوتنسكي “على السور الحديدي (نحن والعرب)”، الذي نشر في 1923 وشكل سياسة الاستيطان العبري وسياسة دولة إسرائيل تجاه النزاع الإسرائيلي – العربي مدة 100 سنة تقريبا. هذه السياسة نجحت وفتحت في نهاية المطاف نافذة فرص سياسية لتسوية النزاع مع كل العالم العربي. لكن نتنياهو أراد إغلاق نافذة الفرص السياسية بواسطة السياسة التي اتبعها في العقود الأخيرة تجاه “م.ت.ف” و”حماس” ومبادرة السلام للجامعة العربية. هذه سياسة مناقضة للجزء الثاني، الأكثر أهمية، في المقال، الذي تطرق فيه جابوتنسكي لإمكانية تسوية النزاع.
بعد تصريح بلفور في 1917 والمصادقة على صك الانتداب في 1922 سادت في البلاد مقاربات رئيسة بخصوص النزاع الذي أخذ يتفاقم بين الاستيطان العبري والحركة الصهيونية من جهة والعرب الفلسطينيين في فلسطين – ارض إسرائيل. كان هناك أشخاص مثل يهودا ماغنس (حلف السلام)، الذي قال في 1925، إنه يجب “شق طريق تفاهم بين اليهود والعرب حول شكل التعايش المشترك في البلاد، الذي يقوم على مساواة كاملة في الحقوق السياسية للقوميتين. لكن في الطرفين فقط قلائل دعموا هذه المقاربة. عرب البلاد أرادوا ضمان أن البلاد ستبقى عربية في طابعها، بسكانها وبسيادتها، في حين أن الحركة الصهيونية أرادت تطبيق، بمساعدة البريطانيين، الثورة الديمغرافية الشاملة المطلوبة لإقامة دولة ديمقراطية مع أكثرية يهودية في كل البلاد، كما قال المندوب السامي البريطاني الأول، هربرت صموئيل، عندما تولى منصبه في كانون الثاني 1920، “سياسة حكومة جلالتها، التي جئت إلى هنا من اجل تطبيقها، هي تشجيع اليهود على السيطرة على البلاد”.
إن عدم الرغبة في التعايش المشترك من الناحية الوطنية وعدم إمكانية تطبيق ذلك اجبر الحركة الصهيونية على تبني مقاربة جابوتنسكي. في الجزء الأول في مقاله شرح جابوتنسكي وبرر موقف العرب، “لأنه لا يمكننا عرض على عرب البلاد وعلى كل العرب أي تعويض مقابل البلاد، لذلك يجب ألا تخطر بالبال إمكانية التوصل إلى موافقة طوعية من قبلهم. لهذا فإنه يجب على الاستيطان الصهيوني المواصلة خلافا لرغبة السكان الأصليين (عرب البلاد). بناء على ذلك يمكنه المواصلة والتطور فقط برعاية قوة دفاعية لا تعتمد على السكان المحليين، أي سورا حديديا لن يكون باستطاعة السكان المحليين اختراقه”. أي أنه يجب بناء تفوق عسكري بحيث يضمن تجسيد حق الشعب اليهودي في دولة في وطنه، وهو الحق الذي تم الاعتراف به من قبل المجتمع الدولي.
رفض قرار التقسيم في 1947 من قبل عرب فلسطين والدول العربية وشن الحرب لإلغائه بالقوة، برهن على أنهم يرفضون حق الشعب اليهودي في إقامة دولة. المفتي أمين الحسيني تمسك بنظرية “كلها لي” واعلن ردا على القرار، “الأمة التي تسعى للعيش لا يمكنها الموافقة على تقسيم وطنها” (1947). انتصار إسرائيل في “حرب الاستقلال” كان بمثابة تعزيز آخر لسياسة السور الحديدي.
في آذار 1948، أثناء المرحلة الأولى في حرب الاستقلال وقبل الإعلان عن الدولة قال دافيد بن غوريون، إن “الإعلان عن إقامة الدولة اليهودية لم ينبع فعليا من قرار الأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني، حتى لو كان لهذا القرار أهمية أخلاقية وسياسية كبيرة، بل نبع من إمكانية هزيمتنا بالقوة في البلاد، عن طريق قوتنا نحن – إذا اردنا تجنيدها بالكامل – ستقام الدولة الآن حتى”. بعد انتهاء الحرب كتب ناحوم غولدمان، رئيس المؤتمر اليهودي العالمي، “هذا كان علامة ومثالا على أفضلية العملية المباشرة مقارنة بأساليب المساومة الدبلوماسية: عدم الموافقة على تقديم أي تنازل والرد بقبضة حديدية على كل اعتداء وإزالة كل عقبة بحد السيف وتشكيل تاريخ إسرائيل عن طريق خلق الحقائق، كل ذلك كان كما يبدو حلا بسيطا ومقنعا وناجعا جدا ويرفع المعنويات، إلى درجة أن هذه المقاربة تحولت إلى موقف إسرائيل الأساسي في نزاعها مع العالم العربي”.
مع ذلك، في الجزء الثاني في مقال “السور الحديدي” شرح جابوتنسكي أن التفوق العسكري ليس الهدف، بل هو الوسيلة فقط. الهدف هو التوصل إلى اتفاق سلام مع العرب يقوم على المصالحة. “الشعب الحي يوافق على مسائل مصيرية وكبيرة كهذه فقط عندما لا يبقى له أي أمل، عندما لا يظهر في السور الحديدي أي تصدع أو شرخ، فقط عندها تفقد الجماعات المتطرفة التي شعارها (لا حازمة) الجاذبية، والتأثير ينتقل إلى الجماعات المعتدلة… فقط عندها سيأتي هؤلاء المعتدلون إلينا وهم يحملون اقتراحات لتقديم تنازلات متبادلة. فقط حينها سيبدؤون التفاوض معنا باستقامة حول مسائل عملية مثل ضمانة ضد الطرد من البلاد أو حول المساواة في الحقوق أو حول كيان وطني مستقل”.
عملية الاستيقاظ من الفكرة التي مكنت من الارتكاز فقط على التفوق العسكري بدأت في 1956. إنذار روسيا وضغط أميركا التي أجبرت بن غوريون على التنازل عن “مملكة داود الثالثة” بعد انتهاء حرب “كديش”، جعلته يفهم أهمية علاقات إسرائيل مع المجتمع الدولي. في مقابلة مع “هآرتس” في 1959 قال، “من يعتقد أنه يمكن، اليوم، أن يحل بالقوة العسكرية فقط قضايا تاريخية بين الشعوب فهو لا يعرف في أي عالم نحن نعيش”. وحسب قوله، “علاقاتنا مع شعوب العالم لا تقل أهمية عن قوتنا العسكرية، التي يجب علينا مواصلة تطويرها من اجل ردع الهجمات ومن اجل الانتصار إذا اجبرنا على القتال”.
لكن الانتصار العسكري اللامع في حرب الأيام الستة أدى إلى انعكاس في عملية الصحوة وعزز وزن التفوق العسكري في الوعي الإسرائيلي. النشوة التي رافقت الانتصار أدت إلى زيادة قوة حركات قومية – مسيحانية متطرفة، وتحولت إلى عائق أمام الوصول إلى الهدف السياسي المتمثل في اتفاق دائم. خلافا لسلفها في المنصب، ليفي أشكول، الذي اعتبر المناطق المحتلة وسيلة للتوصل إلى اتفاق سياسي، فإن رئيسة الحكومة غولدا مائير لم تر أي جدوى في إعادة المناطق، حيث قالت، إن “رسم الخرائط لا يقرب السلام”.
لقد أعلنت أن توجه إسرائيل هو نحو السلام، لكنها لا تؤمن بخطط السلام التي تم اقتراحها في 1970 – 1971 التي وافق عليها الرئيس المصري أنور السادات، وهي كانت السنونو الأولى لاقتراحات تقديم تنازلات من الجانب العربي. غولدا مائير رفضت قبول أن نظرية “السور الحديدي” قد حققت هدفها، لذلك فقد رفضت تحويل الإنجاز الجغرافي إلى اتفاق سلام. فقط الثمن الذي لا يمكن تحمله في حرب يوم الغفران في 1973 وتصميم الرئيس الأميركي جيمي كارتر، حركا العملية السياسية التي أدت إلى سلسلة اتفاقات بين إسرائيل ومصر، التي أبعدت وتبعد الحرب بين الدولتين منذ خمسين سنة.
اتفاق السلام مع الأردن، الذي تنازل في 1988 عن كل طلباته في الضفة الغربية (التي فقدها في 1967)، كان من السهل نسبيا تحقيقه، لأنه لم يكن ينطوي على إعادة كبيرة للأراضي؛ الدولتان تستفيدان منه منذ ثلاثين سنة. في حين أنه مع سورية فوتت إسرائيل فرصة التوصل إلى اتفاق سلام في العام 2000 (في مؤتمر شبردزتاون)، كما وصف ذلك بتوسع رئيس الوفد الإسرائيلي للتفاوض مع سورية، الجنرال احتياط أوري ساغي في كتابه “اليد التي تجمدت”.
“م.ت.ف”، الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، مرت بتغيير في مواقفها إلى أن أعلنت في 1988 عن الموافقة على قرارات الأمم المتحدة 181 و224 و338. بذلك اعترفت بالقرار الذي كان أساس إقامة “الدولة اليهودية” وبحدود أيار 1967 كأساس لاتفاقات السلام، رغم أنها تركت للفلسطينيين دولة على 22% من ارض فلسطين الانتدابية. أي المبدأ الرئيس لـ”م.ت.ف” الذي يتمثل بـ”الكفاح المسلح” تحطم على “السور الحديدي” الإسرائيلي بعد 71 سنة من تصريح بلفور.
لكن رئيس الحكومة في حينه اسحق شامير رفض رؤية ذلك عملية اعتدال، واعلن في 1989: “ذات يوم تحدثوا عن رمينا في البحر. الآن هم لا يقولون ذلك. فقد اصبحوا معتدلين أكثر. تقرير المصير للفلسطينيين والتعاطف يميل نحوهم. لكن إذا نظرنا وبحق إلى الواقع فإن (م.ت.ف) لم تتغير. العرب هم نفس العرب… والبحر هو نفس البحر. الهدف بقي نفس الهدف وهو القضاء على دولة إسرائيل”.
أيضا إعلان “م.ت.ف” في أيلول 1993 عند التوقيع على اتفاقات أوسلو بأنها تعترف بحق إسرائيل في العيش بسلام وأمن، أنها “تعترف بقرارات مجلس الأمن رقم 242 و338، وتلتزم بحل الصراع بالطرق السلمية وبواسطة المفاوضات، ويدين الإرهاب ويعتبر التوقيع بداية لعهد التعايش بدون عنف وخطوات أخرى تعرض الاستقرار والسلام للخطر”، لم يغير أي شيء لدى من جاء بعد شامير في “الليكود”، بنيامين نتنياهو. فقد اعلن ردا على ذلك بأن “دولة (م.ت.ف) التي سيتم زرعها على بعد 15 كم من شواطئ تل أبيب ستشكل خطرا قاتلا فوريا على الدولة اليهودية… سياسة (م.ت.ف) هي نظرية المراحل، وهدفها هو القضاء على دولة إسرائيل وعدم التوصل إلى اتفاق معها. القرارات التي اتخذتها (م.ت.ف) في 1988 استهدفت فقط إرضاء الولايات المتحدة”.
هذا الرد، مثل كثير من الردود في اليمين، برهن على أنه لا يهم ماذا سيكون موقف الفلسطينيين. دائما سيتم اعتبارهم رافضين للمصالحة، لأنه في روايتهم فلسطين كلها لهم. من المهم الإشارة إلى أن الفلسطينيين لم يخفوا في أي يوم هذه الرواية، وأيضا التغير الدراماتيكي في موقفهم، مع الاعتراف بقرارات الأمم المتحدة، لم يغيرها. في مقدمة الإعلان من العام 1988 اعلن المجلس الوطني الفلسطيني عن موافقته على تقسيم البلاد إلى دولتين “رغم الظلم التاريخي الذي لحق بالشعب العربي الفلسطيني”. هكذا أيضا كتب بعد اربع سنوات فيصل الحسيني الذي كان في حينه وزير شؤون القدس في السلطة الفلسطينية، “عندما رسمت (م.ت.ف) بالخطوط العامة برنامجها، كنا ندرك تماما أن هذا البرنامج لن يحقق العدالة الحقيقية والمطلقة لشعبنا، لأن العدالة النقية تعني… العودة إلى ارض فلسطين”.
تنازل الفلسطينيين لا ينبع من رؤية العدل أو إلغاء الرواية الفلسطينية وتبني رواية إسرائيل، بل هو مطلوب إزاء التفوق العسكري لإسرائيل، “السور الحديدي”، والشرعية التي حصلت عليها إسرائيل في حدود 1967. وقد احسن وصف ذلك أسامة اليماني، وهو رجل قانون وكاتب مقالات في صحيفة “عكاظ” السعودية الرسمية، “نحن نحارب إسرائيل ونسعى إلى القضاء عليها، في الوقت الذي هي فيه في الحقيقة قائمة وكيان حقيقي وتوجد لها علاقات دولية وعلاقات صداقة مع معظم دول العالم. نحن نسعى إلى القضاء على دولة لها قوة وقدرة تمكنها من هزيمة كل من يهاجمها ويهدد وجودها”، (2/11/2018).
في المفاوضات التي أجرتها “م.ت.ف” بعد ذلك مع إسرائيل عادت وعرضت اقتراحات جميعها تتساوق تماما مع القرارات الدولية بحيث يعترف الطرفان بها كأساس للمفاوضات، وحتى في جزء منها ظهرت مرونة كبيرة. الاقتراح الذي ذهب بعيدا اكثر من الاقتراحات الأخرى كان لمحمود عباس (أبو مازن) في عملية أنابوليس في 2008 وبعدها. مبادئ الاقتراح هو تبادل أراض 3.8% من الأراضي، وأن يبقى تحت سيادة إسرائيل تقريبا 80% من الإسرائيليين الذين يعيشون خلف الخط الأخضر، وإقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح ومحدودة التسلح، وعودة رمزية للاجئين الفلسطينيين (80 – 100 ألف لاجئ)؛ وضم لإسرائيل الأحياء اليهودية في شرقي القدس (باستثناء جبل أبو غنيم)؛ إبقاء سيادة إسرائيل على حائط المبكى (البراق) والحي اليهودي ونصف الحي الأرمني في البلدة القديمة؛ واعتراف الفلسطينيين بإنهاء النزاع.
توقف المحادثات بين محمود عباس وإيهود أولمرت، وإعادة انتخاب نتنياهو لرئاسة الحكومة في 2009، حول الاقتراحات لتقديم تنازلات متبادلة، التي قدمها الفلسطينيون، ومبادرة السلام العربية من العام 2002، إلى عديمة الأهمية بالنسبة لإسرائيل. نتنياهو عاد واعلن في آذار 2015: “لا ولن تقوم دولة فلسطينية… وبين النهر والبحر لن تقوم أي دولة أجنبية ذات سيادة. الوجود اليهودي والاستيطان اليهودي في كل (يهودا والسامرة) سيبقى وسيزدهر إلى الأبد”. أي أن اقتراح الفلسطينيين ليس ذا صلة لأن نتنياهو لا ينوي تسوية النزاع طبقا للقرارات الدولية.
خلافا لـ”م.ت.ف” فإن “حماس”، في نضالها لقيادة الشعب الفلسطيني في ظل رؤية “كل فلسطين لي”، حاولت منذ الانتفاضة الأولى في 1987 عن طريق الإرهاب اختراق “السور الحديدي” الإسرائيلي. إفشال عملية أوسلو على يد “حماس” واليمين القومي المسيحاني المتطرف في إسرائيل، مع نتنياهو الذي تفاخر هو نفسه بذلك، أدى إلى الانسحاب أحادي الجانب من غزة في 2005، الذي صدع “السور الحديدي” وأعطى الدعم الكبير لنظرية المقاومة والإرهاب لـ”حماس”، التي سارعت إلى ترجمتها في الفوز في الانتخابات في 2006.
منذ عودة نتنياهو إلى رئاسة الحكومة فقد فعل كل ما في استطاعته لزيادة قوة “حماس” كي تقوم بإقصاء “م.ت.ف” وإبطال اقتراحاتها حول التسوية الدائمة لحل الصراع. بكلمات أخرى، نتنياهو تصرف ويتصرف الآن بشكل مخالف لفكرة “السور الحديدي” من خلال نقل النفوذ من الجماعات المعتدلة إلى جماعات مثل “حماس” التي شعارها “في أي حال من الأحوال لا”، وزيادة سحرها في أوساط الجمهور الفلسطيني للإثبات بأنه “لا يوجد شريك فلسطيني”.
إزاء الكارثة في 7 تشرين الأول والحرب الدموية في أعقابها فقد تحققت النبوءة التي كتبتها حنه ارنديت في حرب الاستقلال، “حتى لو انتصر اليهود في الحرب فإنه في النهاية من شأنها في المستقبل أن تدمر الإنجازات المتميزة للصهيونية في فلسطين. الدولة التي ستتبلور هنا ستكون مختلفة عن الدولة التي حلم بها يهود العالم، الصهاينة وغير الصهاينة. اليهود “المنتصرون”، سيعيشون وهم محاطون بالسكان العرب المعادين تماما ومحاصرون داخل حدود مهددة دائما ويغرقون في الدفاع الذاتي المادي إلى درجة ستغطي على أي نشاطات ومصالح أخرى. نمو الثقافة اليهودية سيتوقف عن أن يكون مصلحة لكل الشعب اليهودي. التجربة الاجتماعية سيتم إهمالها لأنها ترف غير عملي. التفكير السياسي سيتقلص إلى درجة أن يصبح استراتيجية عسكرية. التطوير الاقتصادي سيجري فقط حسب احتياجات الحرب”.