اسرائيل: أرض محروقة ( هآرتس)
حتى في الحرب المليئة بخيبة الأمل والبشائر السيئة فقد عبرت احداث أول أمس عن نقطة صادمة بشكل خاص طوال هذه الاحداث. خلال اليوم نشرت أنباء عن موت خمسة من سكان كيبوتسات غلاف غزة، الذين اصيبوا في هجوم حماس الارهابي في 7 اكتوبر (تبين أن أحدهم قتل في نفس اليوم، في الاراضي الاسرائيلية، وأنه لم يتم اختطافه الى القطاع؛ واربعة منهم ماتوا فيما بعد في أسر حماس، وهناك اساس معقول للخوف من أنهم قتلوا بالخطأ بنيران اسرائيلية). تقريبا طوال يوم مكتب رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، الذي يصفي في هذه الايام نشر بيانات عزاء وتماهي فقط حسب معايير “لنا” و”لهم”، لم يكلفوا انفسهما عناء التطرق اليها.
في المساء بدأت تشتعل حرائق في الجليل نتيجة الهجوم الكثيف للصواريخ والمسيرات التي اطلقها حزب الله، اعضاء طواقم الطواريء ورجال اطفاء وقوات الجيش الاسرائيلي ومتطوعون كافحوا بيأس هذه النيران التي هددت الصف الاول للبيوت في المستوطنات، من بينها كريات شمونة وكفار جلعادي. مهرج الامن الوطني والمسؤول ايضا عن خدمات الاطفاء لم يكلف نفسه عناء الوصول الى المنطقة. ايتمار بن غفير فضل اجراء مقابلة مع القناة 14، وبعد ذلك ظهر في عرض موسيقي في برك السلطان في القدس. وفقط بعد منتصف الليل نشر رد من مكتب رئيس الحكومة، ولكنه تناول تطورات اخرى، يبدو أنها أكثر اهمية. خطاب نتنياهو في الكونغرس الامريكي، كما قيل، لن يتم اجراءه في 13 حزيران بل في موعد آخر بعد أن تبين أن هذا الموعد يصادف يوم عيد الاسابيع (الموضوع الذي كان يجب أن يكون معروف لكل من لديه رزنامة)
لا يوجد هنا نسيان أو اهمال بالصدفة. فما يفكر فيه وبحق ننتنياهو حول رفاهية الضواحي تم الكشف عنه في 2018 عندما تطاول على متظاهرة ازعجت احتفال شارك فيه في كريات شمونة: “أنت ببساطة لا تهميني”. ليلة الحرائق في الجليل كانت فقط تعبير آخر، اكثر تطرفا، عن الورطة التي وصلت اليها الحرب، التي سيكون قد مر ثمانية اشهر على اندلاعها بعد غد. في الحكومة وفي الجيش قرروا اخلاء 60 ألف مواطن من القطاع القريب من الحدود مع لبنان منذ اللحظة التي بدأ فيها حزب الله بمهاجمة الجليل في اعقاب هجوم حماس في الجنوب. منذ ذلك الحين واسرائيل موجودة في شرك استراتيجي آخذ في التفاقم في الشمال. فهي لا تنجح في فرض على حزب الله وقف لاطلاق النار طالما أن القتال في غزة يستمر. وقد نجح حزب الله في أن يفرض عليها نوع من الحزام الامني الفارغ من السكان داخل اراضيها، رغم أن نسبة خسارته اكبر من نسبة خسارة اسرائيل.
الحرائق كانت متوقعة مسبقا، كما حدث في حرب لبنان الثانية في 2006 (في الواقع هذا يحدث في كل تدريب ثاني للجيش الاسرائيلي في هضبة الجولان في فصل الصيف). النباتات الجافة تشتعل بسهولة، في حين أن طواقم الاطفاء نشاطها محدود وتجد صعوبة في استخدام الطائرات للاطفاء في ظل تهديد اطلاق النار من قبل حزب الله.
احتجاج رؤساء السلطات في الشمال والتغطية الاعلامية الواسعة في الفترة الاخيرة، أيقظت أمس المستوى السياسي من سباته. أمس جرت سلسلة مشاورات في المستوى السياسي والامني حول الوضع على الحدود مع لبنان. رئيس الاركان قال أمس اثناء جولة في قيادة المنطقة الشمالية: “نحن نقترب من النقطة التي سيتعين علينا فيها اتخاذ قرار. الجيش الاسرائيلي مستعد للهجوم”.
رغم أن الضربة في الجنوب كانت شديدة الى درجة لا يمكن تقديرها، بالذات في الجليل هناك تخوفات اكثر حول احتمالية عودة السكان الى منطقة الحدود في المستقبل. ليس فقط لأنه لا يوجد حل عسكري في الأفق، والوقت الذي يمر يجعل كثيرين يفكرون في مغادرة المنطقة بشكل دائم، لا سيما على خلفية السنة الدراسية القادمة التي ستبدأ في شهر ايلول. منظومة الدعم المحلية في المستوطنات ضعيفة نسبيا، ومعالجة الحكومة التي حتى الآن لا تشمل اقامة ادارة ترميم ناجعة، يشوبها عيوب كثيرة. من يتجول في الوقت الحالي في كريات شمونة سيجد مدينة شبه فارغة، وفي حالة استعداد دائمة لتلقي الضربات. حزب الله يدير سياسة اطلاق نار قاتلة ودقيقة جدا، بالاساس بواسطة المسيرات الهجومية.
الادارة الامريكية تقدر أن التوقيع على صفقة التبادل ووقف اطلاق النار في الجنوب ستسمح بوقف فوري لاطلاق النار في الشمال، الذي خلاله يتم تحريك مفاوضات سريعة حول اتفاق جديد يشمل ابعاد قوة “الرضوان”، وحدة الكوماندو في حزب الله، عن منطقة الحدود. نعيم قاسم، نائب حسن نصر الله، قال أمس لقناة “الجزيرة” بأن حزبه غير معني بحرب شاملة، ولكنه لا يخشى من الدخول اليها اذا تصرفت اسرائيل بهذا الشكل. الدكتور شمعون شبيرا، المختص في شؤون حزب الله قال للصحيفة بأنه رغم خسائرها إلا أن هذه المنظمة الشيعية لا تشعر بأنها هزمت، بل هي تحصل على التشجيع من شكاوى رؤساء المجالس في شمال البلاد عن تدهور الوضع الامني. وحسب قوله فان حزب الله يصدر اشارات بأنه مستعد لزيادة النيران من اجل مساعدة حماس في ابتزاز تنازلات من اسرائيل في المفاوضات حول الصفقة في الجنوب.
ظهر أمس، قبيل مسيرة الاعلام التي سيتم اجراءها في القدس اليوم، هدد بن غفير وقال: “نحن سنذهب الى الحرم رغم أنفهم. يجب أن نضربهم في المكان الاكثر اهمية بالنسبة لهم”. الفلسطينيون في القدس وفي الضفة الغربية ردوا على ذلك بغضب. في العام 2021، عندما كان عضو كنيست محرض، نجح هذا القومي المتطرف في توفير لحماس مبررات لاطلاق الصواريخ على القدس، التي اعتبرت البداية لعملية “حارس الاسوار”. ايضا عندما لم يساعد وبحق في اطفاء الحرائق فان بن غفير دائما مستعد للمساعدة في اشعال حرائق جديدة.
يجب قول المفهوم ضمنا
بعد مرور اربعة ايام على خطاب الرئيس الامريكي فانه حتى الآن لم يتم تسلم أي رد رسمي من اسرائيل أو من حماس على اقتراح الرئيس لصفقة التبادل ووقف اطلاق النار، الذي هو بالفعل اعادة تدوير (حسب اقوال نتنياهو) بتغير ما لاقتراح اسرائيل السابق. قيادة حماس في غزة لم ترد بعد. ونتنياهو يقوم بارسال رسائل متناقضة، لكن في هذه الاثناء يضمن لنفسه التأييد المبدئي للصفقة من قبل الاحزاب الحريدية ووزراء الليكود. التقدير في المستوى السياسي هو أنه سيحصل على اغلبية في الحكومة اذا لم يتم طرح الصفقة للتصويت. ولكن هذا الامر يمكن أن يكلفه انسحاب احزاب اليمين المتطرف وحل الائتلاف.
البيانات أول أمس عن موت خمسة من سكان الكيبوتسات زادت القلق والخوف في اوساط عائلات المخطوفين، وابرزت استنتاج العديد منها بأن استخدام الضغط العسكري في القطاع لا يدفع الصفقة قدما، بل بالذات يعرض للخطر حياة اعزاءهم. أبناء عائلات المخطوفين انتقلوا الى استخدام الضغط الشخصي على وزراء واعضاء في الكنيست، في الكنيست وفي بيوتهم وفي أي مكان محتمل. البيانات عن موت هؤلاء الخمسة اصدرها المتحدث بلسان الجيش الاسرائيلي، العميد دانييل هاجري. في مؤتمر صحفي تم ببث مباشر ظهر المتحدث وهو بصعوبة يحبس الحزن والغضب. رئيس الحكومة ووزير الدفاع ورئيس الاركان لا صلة لهم بالامر. عندما لا يكون هناك أي نجاحات فانه يتم الاكتفاء بالعميد هاجري فقط. في استوديو القناة 14، بالمناسبة، لم يكونوا راضين عن ظهور هاجري. فقد قال بعض المشاركين في الحوارات في الاستوديو بأنه كانت في الأجواء روح اشباح. يتوقع من المتحدث بلسان الجيش الاسرائيلي أن يهتم ببث روح قتالية في الشعب.
ما هي احتمالية أن يتم عقد الصفقة رغم كل ذلك؟ ضباط كبار في جهاز الامن يجدون صعوبة في التنبؤ بخطوات نتنياهو، لكنهم يعلقون الآمال على الضغط الامريكي الذي يستخدم الآن حتى على حماس بواسطة قطر، المستضيفة لقيادة حماس الخارج. أمام اسرائيل تبث الادارة اشارات عن امكانية أن قرارات محكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية في لاهاي ستتم ترجمتها الى تصويت في مجلس الامن. هناك يدور الحديث عن اجراءات عملياتية، يمكن أن تصل الى مستوى فرض عقوبات دولية على اسرائيل. ايضا امكانية اصدار مذكرات اعتقال في لاهاي تقض مضاجع رئيس الحكومة وشخصيات رفيعة اخرى. رئيس الـ سي.آي.ايه، وليام بيرنز، يتوقع أن يصل الى المنطقة في الايام القريبة القادمة في محاولة للدفع قدما بالصفقة. في جهاز الامن يتشككون في أن حماس ستعرض رد ايجابي متحفظ على الاقتراح الى جانب طلبات اخرى، لضمان أمن قادتها والتعهد بوقف مطلق للنار.
نتنياهو ينشغل الآن بالاستعداد المحموم قبل القاء الخطاب في الكونغرس. في المقابل، هو توقف تقريبا بشكل كامل عن التحدث مع الجمهور في البلاد، الذي يستمر ابناءه في القتل في الحرب التي اهدافها اصبحت أقل وضوحا واقل اتفاقا عليها. المؤتمرات الصحفية توقفت منذ زمن ولا يوجد ما يمكن التحدث عنه حول مقابلات مع وسائل الاعلام الاسرائيلية. كل ما يصدره مكتب رئيس الحكومة هو افلام قصيرة، تمت هندستها، يظهر فيها مقطوع عن الواقع في الخارج. الرئيس الامريكي سئل في مقابلة نشرت أمس في مجلة “تايم” اذا كان نتنياهو سيطيل مدة الحرب في غزة لاعتبارات سياسية؟. بايدن الذي في جيله ومكانته معفي كما يبدو من اعتبارات تكتيكية دبلوماسية قال: “يوجد هناك للناس كل الاسباب لاستنتاج ذلك”. احيانا يجب قول المفهوم ضمنا ايضا.
* هآرتس