بعد أن حوّل نصر الله لبنان إلى رهينة لقطاع غزة
“من الأفضل للكيان الصهيوني ألا يواجه (حزب الله) بالصورة التي يغرق فيها في قطاع غزة”، هذا ما أوصى به وزير الخارجية في ايران، علي باكري قآني، أثناء زيارته في لبنان في هذا الأسبوع. في المناسبة نفسها كشف عن أن بلاده تواصل المحادثات غير المباشرة مع الولايات المتحدة، التي حسب قوله، “لم تتوقف في أي وقت”، دون تفسير حول ماذا. إلى جانب قضية المشروع النووي وصد هجمات الحوثيين في البحر الأحمر فإن واشنطن وطهران الآن توجد لهما مصلحة مشتركة ملحة أكثر: منع اندلاع حرب واسعة بين اسرائيل ولبنان.
باكري قآني، كان نائب وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان الذي قتل في حادثة المروحية في الشهر الماضي مع الرئيس إبراهيم رئيسي، وتم تعيينه بشكل مستعجل لتولي المنصب الجديد. هو ترأس الوفد الإيراني للمحادثات النووية في فيينا قبل ثلاث سنوات، وكان مشاركا في المحادثات مع الولايات المتحدة حول تبادل الأسرى، وأجرى المفاوضات أمامهم في سلطنة عمان في كانون الثاني الماضي لصد هجمات الحوثيين (التي لم تثمر).
باكري قآني هو صاحب تجربة كبيرة ومعرفة عميقة بالمتفاوضين معه من الأميركيين. هذا ذخر حيوي للطرفين اللذين يناقشان كبح المواجهة الواسعة في لبنان، لكن توجد له ميزة أخرى، ربما هي اكثر أهمية. شقيقة هو صهر المرشد الأعلى علي خامنئي، لذلك فإنه محسوب على الدائرة القريبة لمتخذي القرارات في ايران. المهمة الأولى له هي “معالجة” الأزمة في لبنان. بعد بضعة أيام على اللقاء في هذا الأسبوع مع حسن نصر الله، اعلن نائب الأخير، نعيم قاسم، أن الحزب لا يتطلع إلى حرب واسعة، “لكنه مستعد لها إذا اقتضى الأمر ذلك“.
يمكن الاستنتاج بأن ايران ما زالت حتى الآن لم تغير استراتيجيتها منذ بداية الحرب، التي تحدد “معادلة الرد”، للمواجهة بين اسرائيل و”حزب الله” بدون التدهور إلى حرب إقليمية. يبدو أن هجوم ايران بالصواريخ والمسيرات على اسرائيل في منتصف نيسان ردا على تصفية قائد قوة القدس في سورية ولبنان محمد رضا زاهدي، يمكن تفسيره بأنه انحراف عن هذه المعادلة. ولكن طهران حاولت التوضيح بأن الأمر يتعلق بـ”رد محسوب” غير مرتبط بالمواجهة بين اسرائيل و”حزب الله”، بل بـ”حساب منفصل” معها، ما يبرر حسب رأيها، الرد المباشر على مس اسرائيل بقنصليتها في دمشق، التي تعتبر كأرض إيرانية. وبالتالي، تعتبر مسا بسيادتها.
التحذيرات والتهديدات من جهة اسرائيل؛ التقارير التي بحسبها هي تنوي شن “حرب كبيرة” في منتصف شهر حزيران؛ زيادة حصة تجنيد الاحتياط بخمسين ألف جندي؛ المناورات للجيش التي تشبه الحرب في لبنان؛ الإدراك في بيروت بأن تهجير عشرات آلاف الاسرائيليين من بيوتهم في الجليل، الذي يعرضه “حزب الله” كإنجاز كبير له، كل ذلك يمكن أن يعمل كالسهم المرتد ضدها، كل ذلك يضع ايران و”حزب الله” في نقطة حسم معقدة. في مركزها يقف سؤال: إلى أي درجة يمكن لهذه المنظمة الشيعية التي تمط حدود المواجهة مع اسرائيل دون أن تعرض للخطر مصالح طهران، ودون أن تظهر وكأنها تراجعت أمام التهديدات؟
كل ذلك على خلفية ازدياد الانتقاد العام والانتقاد السياسي في لبنان من اجل إجبار اكثر من 100 ألف مواطن على إخلاء بيوتهم في المناطق على الحدود مع اسرائيل. الحقول تم تركها، وفرع السياحة يعمل فقط بشكل رمزي، رئيس الحكومة نجيب ميقاتي قدر أن الاقتصاد تكبد خسائر بمليارات الدولارات. “حزب الله” يستمر في تكبد الخسائر الواضحة في منشآته ويحصي اكثر من 330 قتيلا في صفوفه. محرر صحيفة “الأخبار” إبراهيم الأمين، المقرب من حسن نصر الله، حاول الإجابة عن سؤال ما الذي يوجه “حزب الله”، وهل عليه أن يشعر أنه مهدد من خطوات اسرائيل.
شرعية “حزب الله“
المقال الذي نشره، أمس (أول من أمس)، تحت عنوان “هل اسرائيل حقا مستعدة لحرب واسعة ضد لبنان؟”، وصف فيه الأمين العيوب التي توجد في سياسة وسلوك اسرائيل، بشكل وكأنها أخذت من الصحف الإسرائيلية. لقد عرض ذلك كدليل على عدم قدرة اسرائيل على تجسيد تهديدها، وقال، إنه لا يوجد للبنان ما يخشى منه. الأمين، الذي يتم اقتباسه بشكل دائم من قبل المحللين الاسرائيليين يعرف جيدا مكانته كـ”أبو المحللين”. المقال الذي نشره لا يعكس بالضرورة اتجاه التفكير الحقيقي لقيادة “حزب الله”. في المقابل، الموقف الرسمي اللبناني لا يقتضي مراوغات اكثر.
في مؤتمر صحافي إلى جانب باكري قآني، وزير الخارجية اللبناني عبد الله بوحبيب اعلن “لقد أكدت على موقفنا المعارض للحرب، وشرحت للوزير رؤية لبنان لإيجاد حلول قابلة للتحقق، التي ستعيد الهدوء والاستقرار إلى جنوب لبنان بواسطة سلة مشتركة تشمل تطبيقا كاملا للقرار 1701”. في أقواله تطرق بوحبيب إلى “خطة المراحل” التي طرحتها فرنسا، والخطة الأميركية، اللتين بحسبهما سينسحب “حزب الله” مسافة 10 – 15 كم عن الحدود مع اسرائيل. بعد ذلك، تم الاقتراح، الجيش اللبناني سينتشر في المنطقة التي سيتم إخلاؤها، وستبدأ المفاوضات على ترسيم نهائي للحدود البرية بين الدولتين، التي يتوقع أن تشمل تنازلات جغرافية من جانب اسرائيل.
هدف كل العملية هو إلغاء ذريعة “حزب الله” لمواصلة المواجهة، وبالأساس وقف فوري لإطلاق النار. على أقوال بوحبيب رد باكري قآني باقتضاب: “دائما كانت هناك مشاورات وتعاون بين المسؤولين في الدولتين. ايران دائما تسعى إلى دعم الاستقرار والأمن وتقدم لبنان. ولم توفر في أي يوم الجهد للعمل على زيادة تقدم ورفاهية الشعب اللبناني.
هذه ليست أقوال فارغة استهدفت إرضاء أذن المواطنين في لبنان. بالنسبة لإيران هي لها تداعيات استراتيجية لأنه بهذا “الرفاه” ترتبط شرعية “حزب الله”. الحزب يمتلك هو وشركاؤه السياسيون 62 من بين 128 مقعدا في البرلمان، وحقيبتين وزاريتين في الحكومة. هكذا فإنه شريك كامل في الأزمة الاقتصادية الآخذة في التفاقم منذ العام 2019 قبل الإعلان عن الإفلاس؛ ومنع تعيين رئيس جديد للبنان منذ تشرين الأول 2022.
هكذا يطيل “حزب الله” حكم الحكومة الانتقالية الضعيفة، التي لها صلاحيات محدودة. تغيير مكانتها إلى حكومة دائمة مرتبط بانتخاب رئيس، الذي حسب الدستور هو الذي يقوم بتعيين رئيس الحكومة. بدون حكومة لها صلاحيات ويمكنها تطبيق الإصلاحات الاقتصادية، أو على الأقل التعهد بتنفيذها، فإنه لا يوجد للبنان في هذه الأثناء أي فرصة للحصول على المساعدات الدولية التي ستنقذه من الأزمة.
ميزة حسن نصر الله
الادعاء الرئيس لمنتقدي وخصوم “حزب الله” هي أن هذا الحزب يستخدم المواجهة مع اسرائيل كأداة لإجبار القوى السياسية على الموافقة على تعيين مرشحه للرئاسة سليمان فرنجية، وهو التعيين الذي سيضمن أن رئيس الحكومة القادم والوزراء سيعطون له الدعم والميزانيات التي ستمكنه من إملاء سياسته. هكذا يستطيع “حزب الله” الدفع قدما بمصالح ايران، وبالأساس التهرب من المطالبة بنزع سلاحه. حسن نصر الله بالطبع ينفي هذا الادعاء. فهو أمام خصومه يستطيع في الواقع هز الكتف، لكن يجب عليه مواجهة حقيقة أن الحرب في غزة أضافت إلى كل الاعتبارات عاملا غير متوقع وهو الذي يملي الخطوات السياسية في لبنان بشكل يمكن أن يعرض للخطر مصالح ايران.
مبدأ “وحدة الساحات” بين وكلاء ايران في المنطقة، الذي هو من إبداع قائد قوة القدس السابق قاسم سليماني الذي تمت تصفيته في كانون الثاني 2020 من قبل الولايات المتحدة، لم يستهدف تحرير فلسطين أو تدمير اسرائيل. هدفه كان خلق عمق استراتيجي لحماية ايران. هذا من خلال الافتراض أن طهران يمكنها تجسيد طموحاتها الإقليمية بواسطة “قوى مساعدة” محلية تجري المواجهات على الأرض دون أن تضطر إلى أن تكون شريكة مباشرة في العمليات التي يمكن أن تضعها على قائمة الأهداف للولايات المتحدة أو اسرائيل أو دول المنطقة. ولكن من استبدل سليماني، إسماعيل قآني، تبين أنه قائد باهت مع قدرة تخطيط وتفكير محدودة. وهو حتى لا يتكلم اللغة العربية، وهذا نقص كبير عندما يكون مركز ساحة التأثير التي تسعى إليها ايران هي الدول العربية.
هذه الصفات لقآني وفرت ميزة كبيرة لحسن نصر الله، الذي اصبح رجل ايران القوي في المنطقة وتقدم إلى مكانة منسق عمليات منظمات الامتداد. ايران نفسها لم تنضم بشكل مباشر لـ”وحدة الساحات”، وتركت لـ”حزب الله” وللمليشيات الشيعية في العراق وللحوثيين في اليمن تطبيق نظرية القتال هذه. ولكن في الوقت الذي فيه الفروع الأخرى رفعت راية التضامن مع “حماس”، فإن حسن نصر الله اعلن أن المواجهة مع اسرائيل استهدفت الدفاع عن لبنان، وأنه بدونه فإن اسرائيل كانت ستحقق حلمها وتحتل الدولة وتزرع فيها الدمار كما فعلت في غزة. هذا المبرر يصدقه قلائل في لبنان. عندما أوجد حسن نصر الله العلاقة بين وقف الحرب في غزة ووقف النار في لبنان فإن شرعية ادعائه، الضعيفة أصلا، تحطمت.
ليس فقط خصوم “حزب الله” هم الذين وقفوا على الأرجل واتهموا الحزب بأنه حول لبنان إلى رهينة لغزة، بل أيضا رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أوضح بأن المواجهة تعرض الدولة للخطر. مشكلة حسن نصر الله هي أن ايران يمكن أن تعترف بأنه سوية مع لبنان جرها أيضا إلى مكانة مشابهة؛ وأن مواجهة واسعة بين “حزب الله” واسرائيل يمكن أن تجبرها على التدخل بشكل مباشر، خلافا للاستراتيجية التي دافعت عنها حتى الآن. خلافا لموقف المراقب الذي اتخذته في غزة بذريعة أن “حماس” لم تنسق معها خطتها أو موعد الهجوم، فإن ايران ستجد صعوبة في التنصل من التزامها تجاه “حزب الله”. وهي العملية التي يمكن أن تضعها في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة. هذا ليس فقط قلقا إيرانيا، بل أيضا واشنطن تلقي بكل ثقلها لتجنب الحاجة إلى المواجهة مع ايران.
هذا يبدو أنه الاعتبار الرئيس الذي يحركها الآن كي تضغط على اسرائيل لتبني خطة إنهاء الحرب في غزة، التي يمكن أن توقف النار في الشمال وتمنع فتح جبهة إقليمية. جبهة التي حجمها، وبالتأكيد نتائجها، يصعب تخيلهما. السؤال هو هل ستنجح ايران والولايات المتحدة في ترجمة هذه المصالح المشتركة إلى نتائج سياسية تلزم زبائنهما.
عن “هآرتس”