الغرق في وحل لبنان («هآرتس»)
«الحرب يجب أن تنتهي بهزيمة عسكرية مطلقة لحزب الله. يجب أن نضع له إنذاراً نهائياً علنياً كي يوقف تماماً إطلاق النار وسحب كل قواته الى ما وراء نهر الليطاني، واذا لم يستجب لذلك بشكل كامل فيجب على الجيش الإسرائيلي الذهاب الى حرب دفاعية عن مستوطنات الشمال في عمق الأراضي اللبنانية، بما ذلك الدخول البري وسيطرة اسرائيل عسكرياً على جنوب لبنان»، هذا ما قاله وزير المالية بتسلئيل سموتريتش في تقديم رؤيته الاستراتيجية قبل شهر. سموتريتش ليس في وضع الأقلية. الشعور أنه مطلوب القيام الآن بتوجيه ضربة حاسمة «واحدة والى الأبد»، تحطم حزب الله وتدمر بناه التحتية، واذا اقتضى الأمر ايضا البنى التحتية في كل لبنان، وبذلك عودة سكان الجليل الى بيوتهم، آخذ في التبلور على اعتبار أنه الاستراتيجية الوحيدة التي لا مناص منها.
يكفي الاستماع الى الذين يجلسون على طاولات الحوار، التي ملأت في العيد استوديوهات الاخبار بعد تصفية طالب عبد الله، «القائد الكبير في حزب الله»، من اجل الفهم كيف وأين ولدت هذه الاستراتيجية. بعضهم اقترحوا توجيه ضربة قاسية وسريعة تستمر لثلاثة اسابيع بدلا من المراوحة في المكان، التي تميز المواجهة المتصاعدة. آخرون ادركوا أن ضربة واحدة لن تكفي، ومثل سموتريتش قدروا أن اسرائيل ستضطر الى الاحتفاظ بـ «حزام أمني» لفترة طويلة، في حين أن غيورا آيلاند، صاحب نظرية التجويع والتدمير الشامل لغزة ساهم في التطوير الفكري الذي عرضه في السابق في ما يتعلق بحماس. آيلاند يرفض في الواقع الموقف الذي يقول بأن اسرائيل يمكنها هزيمة حزب الله، أيضا اذا أضرت به بصورة شديدة فانه يستطيع التعافي خلال فترة قصيرة. ولكن حسب قوله فان «حسن نصر الله يخشى جدا من حرب تؤدي الى تدمير دولة لبنان حيث أنه قام ببناء مكانته كوطني لبناني، ولأنه رئيس حزب يهتم ليس فقط بالطائفة الشيعية، بل بجميع مواطني لبنان. في حالة أن البنى التحتية للطاقة والمواصلات والاتصالات في لبنان سيتم تدميرها، واذا ظهر مركز بيروت مثل مركز مدينة غزة فعندها سيفهم حسن نصر الله كم هو من الافضل انهاء الحرب. من ناحية عسكرية هذه اهداف سهلة التحقق ولا تقتضي عملية برية معقدة».
من المهم معرفة أي بنى تحتية قصد آيلاند. البنى التحتية للمواصلات في لبنان هي في الاصل مدمرة، وتزويد الكهرباء توفره المولدات الخاصة بعد افلاس شركة الكهرباء في لبنان فعليا، وبيروت تعرضت لانفجار ضخم في الميناء، ودمار شديد للمباني السكنية سيؤدي الى هجرة مئات آلاف المواطنين من الدولة أو الهرب الى الجبال. لبنان هي دولة على شفا الافلاس الرسمي، ويبدو الآن أنه لم يعد هناك أي ضرر اقتصادي يمكن الحاقه بها، ناهيك عن ضرر يمكن أن يؤثر على حزب الله.
لكن من الممتع رؤية كيف أن استراتيجيات فاسدة تحصل على التجديد. أيضا نظرية آيلاند ليست نظرية أصيلة. فقد اسمع مثلها دان حلوتس، رئيس الاركان في حرب لبنان الثانية، لكن في حينه واجه سوراً حصيناً وضعه رئيس الحكومة في حينه اهود اولمرت الذي عارض بشكل قاطع حربا ضد لبنان. في مقال نشره في آذار 2014 في موقع معهد بحوث الامن القومي بعنوان «حرب لبنان الثانية، نظرة الى الخلف»، كتب ضمن امور اخرى بأن «احد الامور الاكثر اهمية التي يجب فهمها – أنا اقول ذلك ليس فقط بأثر رجعي بخصوص الحرب في لبنان، بل ايضا من اجل أن يفكر فيها أحد ما ليس فقط في سياق ما حدث، بل ايضا في سياق ما يريد البعض أن يحدث – هو أن دولة اسرائيل هي دولة قوية مع قوة عظيمة، وتوجد لدينا ادوات دول قليلة تمتلكها، ولدينا قدرات توجد في عدد قليل من دول العالم، ولكن نحن لا نستطيع العمل بدون خلق بنية تحتية واسعة من الشرعية الدولية. من يعتقد أنه يمكن العمل بدون شرعية دولية فهو شخص ادراكه للواقع وفهم موقف ومكانة وعلاقات دولة اسرائيل معيب… ماذا كان سيحدث لو أننا هاجمنا البنى التحتية في لبنان في الفترة التي فيها العالم الغربي، في المقام الاول الولايات المتحدة والدول الاوروبية، اعتبر حكومة فؤاد السنيورة وسعد الحريري عاملاً توجد احتمالية للتعاون معه بصورة يمكن أن تغير الوضع، واظهر تجاهه وتجاه مستقبله قلقاً حقيقياً؟ لو فعلنا ذلك فمن المحتمل جدا أن الحرب كانت ستنتهي خلال 48 ساعة وحزب الله كان سيستمر في اطلاق الصواريخ والتنكيل بالحدود الشمالية وتشويش روتين حياة كل سكان شمال دولة اسرائيل».
الامور التي كتبها اولمرت في حينه تنطبق على الوضع اليوم. الحرب في غزة اثبتت كيف أن التآكل العميق في الشرعية الدولية يملي خطوات عسكرية ويغير الاستراتيجية. وذلك في الوقت الذي يوجد فيما يتعلق بغزة اتفاق دولي كاسح، بما في ذلك عربي، بأن حماس هي منظمة إرهابية يجب تدمير قدراتها العسكرية. لبنان وحزب الله يوجدان في مكان مختلف تماما. الآن حتى إسرائيل لم تعد تطالب بنزع سلاح حزب الله، بل فقط إبعاد تهديده. لبنان هو دولة سيادية، في الواقع لا تسيطر على كل اراضيها وتتم ادارتها من قبل حكومة انتقالية، لكنها تحصل على الشرعية الدولية وجيشها يحصل على مساعدات أميركية رغم أنه خاضع لتوجيهات الحكومة التي يشارك فيها حزب الله. حكومة لبنان لا يجب اقناعها من خلال الضغط العسكري للموافقة على وقف اطلاق النار. سياستها العلنية هي عدم الانجرار الى حرب شاملة، والاتفاق مع اسرائيل على ترسيم خط الحدود النهائي بين الدولتين وتنفيذ القرار 1701 الذي تم اتخاذه في الامم المتحدة في 2006 وأنهى حرب لبنان الثانية. على طاولة حكومة لبنان وحكومة اسرائيل يوجد عرضان سياسيان، فرنسي وأميركي، يتحدثان عن مراحل تنفيذ يمكن أن تثمر اتفاقاً لوقف طويل لاطلاق النار وتحييد على الاقل بعض ذرائع المواجهة بين الدولتين. العرضان يشملان ضمن امور اخرى انسحاب قوات حزب الله الى مسافة 10 – 15 كم عن الحدود ونشر قوة معززة لليونفيل على طول الحدود الى جانب قوات الجيش اللبناني. حزب الله ليس فقط يعرف هذه الخطط، بل هو ايضا صادق مبدئياً عليها.
العائق الرئيسي الذي يبدو في هذه الأثناء أنه لا يمكن تجاوزه هو العلاقة التي أوجدها حزب الله بين وقف النار في لبنان ووقف الحرب في غزة، أي أنه طالما لم تتوقف إسرائيل عن إطلاق النار في غزة فان حزب الله لن يتوقف عن إطلاق النار. مع ذلك، حزب الله في الواقع قال إنه طالما أن الحرب مستمرة في غزة فانه لن يكون مستعداً حتى للنظر في هذه الاقتراحات، لكن هذا الموقف لا يزعج ممثل حزب الله في البرلمان محمد رعد، الذي قتل ابنه عباس في قصف لاسرائيل في تشرين الثاني الماضي، في اجراء محادثات مباشرة مع جان ايف لدريان، المبعوث الخاص للرئيس الفرنسي حول خطة لتعيين رئيس، وعلى الطريق ايضا حول خطة وقف اطلاق النار التي تدفع بها فرنسا قدما.
القوة المهيمنة
الى جانب الاقتراحات والنقاشات حول وقف إطلاق النار، فان سلسلة طويلة من الدول، على رأسها الولايات المتحدة وفرنسا وقطر والسعودية والإمارات، تنشغل منذ اشهر كثيرة في جهود انقاذ لبنان من الازمة السياسية والدفع قدما بتعيين رئيس جديد بعد سنتين فيها الدولة تعمل بدون رئيس، التي فيها فقط هو الذي يستطيع تعيين رئيس الحكومة، والحكومة المستقرة يمكنها الدفع قدما بالاصلاحات الاقتصادية الحيوية. بدون ذلك لا يمكن للدولة الحصول على المساعدات بمليارات الدولارات من اجل ترميم اقتصاد لبنان. خلافا للحرب ضد حماس فان هجوما شاملا على لبنان سيعتبر بالنسبة لدول عربية، من بينها الدول التي لها اتفاقات سلام مع اسرائيل، مسا بدولة شقيقة مع كل نتائج ذلك السياسية المهددة. وبالنسبة للدول الغربية هذا سيكون هجوما على دولة ما زالت تعتبر مؤيدة للغرب، وعلى الاقل دولة يجب انقاذها.
يمكن للمرء التساؤل حول ما يستند اليه افتراض من يؤيدون الحرب ضد لبنان، الذين يعتقدون أن الضغط العسكري المدمر وحده هو الذي سيجبر الحكومة على إملاء وقف اطلاق النار على حزب الله، أو جعل حزب الله ينزع سلاحه ويرسل رسالة اعتذار للشعب اللبناني. هذه حكومة قدرتها على اتخاذ قرارات مصيرية معدومة بسبب صراعات القوة الداخلية بين القوى السياسية الرئيسية المنقسمة بين كتلة مؤيدي حزب الله التي تشمل حركة أمل الشيعية برئاسة رئيس البرلمان القوي نبيه بري، الذي يجري محادثات الوساطة ايضا مع فرنسا وأميركا باسم حزب الله، وبين الاحزاب المسيحية، منها «القوات اللبنانية» برئاسة سمير جعجع، وحزب «الكتائب» برئاسة سامي الجميل، والتيار الوطني الحر برئاسة جبران باسيل، وهو الحزب الذي كان حليف حزب الله ولكن بسبب الخلافات حول تعيين الرئيس فقد اصبح خصما. في المقابل، بالتحديد الحزب الدرزي الكبير، الحزب التقدمي الاشتراكي، الذي ترأسه حتى شهر حزيران 2023 الزعيم الكاريزماتي وليد جنبلاط، الذي كان معارضا شديدا لحسن نصر الله، يحاول في هذه الاثناء عرض خطة جديدة لتعيين رئيس بموافقة حزب الله.
في هذه الأثناء فان الطريقة والوتيرة التي تجري فيها المحادثات على تعيين الرئيس تولد الانطباع وكأنه لا توجد حرب في لبنان، وكأن عشرات آلاف المواطنين في لبنان لم يغادروا بيوتهم وآلاف دونمات الحقول لم يتم تركها، وضجة الانفجارات توقفت عند خط الليطاني. هل هجوم واسع لإسرائيل في بيروت وتدمير المباني العامة والإضرار الشديد بالبنى التحتية يمكن أن يحدث ثورة سياسية تجعل حزب الله يستسلم ويوافق على وقف إطلاق النار خشية فقدان الذخر الأكثر اهمية بالنسبة له، السيطرة السياسية على الدولة؟ أو أن يؤدي الى عكس ذلك، تجمع حول حزب الله صفوف المعارضين له وجعله مرة اخرى «حامي لبنان الحصري»، الذي هو فقط يمكنه توفير الحماية ومواجهة العدو؟.
حزب الله في الحقيقة هو القوة السياسية التي تهيمن في لبنان، هذه القوة التي طورها بواسطة السوط العسكري الذي وفرته له القدرة على «تجنيد» وتفعيل اسرائيل للعمل ضد لبنان؛ لكن لا يوجد لحزب الله وشركائه اغلبية في لبنان، وصراعات القوة السياسية تدل مرة اخرى على أن حسن نصر الله لا يمكنه ادارة لبنان وتحقيق طموحاته السياسية بدون ائتلاف داعم. هنا يكمن ايضا الضعف الهيكلي لخصومه، الذين هم غير قادرين على الحسم خلافا لحزب الله. عدا عن الوضع في 2006 الذي كان فيه للبنان حكومة قوية يؤيدها المجتمع الدولي، فان لبنان الآن تتم ادارته من قبل حكومة ضعيفة. في العام 2006 كان يمكن لرئيس الحكومة السنيورة تقديم للامم المتحدة، بدعم من أميركا، اقتراحه لانهاء الحرب الذي شمل سبعة بنود من اجل وقف اطلاق النار، وأن يقوم بلي ذراع فرنسا، وحتى اجبار حزب الله على تبني الاقتراح خلافا لموقف ايران، الذي اصبح القرار 1701 المعروف. الآن يوجد لرئيس الحكومة في لبنان، نجيب ميقاتي، فقط صلاحية صياغة البيانات لوسائل الاعلام.
ميقاتي والحكومة في لبنان والبرلمان يدركون بشكل جيد الدمار الكبير المتوقع للبنان اذا قررت اسرائيل المهاجمة. ولكن الخلاص لا يوجد في أيديهم. في المقابل، اسرائيل وافقت في السابق على وقف اطلاق النار في غزة، وهو الوقف الذي يتعلق بوقف اطلاق النار في لبنان وابعاد التهديد. فهل هجوم شامل على لبنان سيجلب نهاية ناجحة اكثر؟.
عن «هآرتس»