إسرائيل تروّج أكاذيب لم يعد أحد يصدقها
بقلم: ديفيد ريتشي*
عن “هآرتس”
أقرّت محكمة العدل الدولية في لاهاي، الشهر الماضي، أنّ الاحتلال الإسرائيلي يشكل انتهاكاً للقانون الدولي. ورداً على ذلك القرار، أعلن رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، أنّ “الشعب اليهودي ليس مُحتلاً في أرضه”، وأنّه “ليس في مقدور أي قرار افترائيّ في لاهاي تشويه هذه الحقيقة التاريخية”.
يشكل هذا الرد استمراراً وتكراراً لـ”كذبة كبرى”، كذبة فظّة جداً، لكن المستمعين لها يصدّقونها. نحن نستنكر، بالطبع، تلك الأكاذيب الكبيرة التي يرويها كذابون عصريون من أمثال ترامب وغيره، والذي شجّع مؤيديه على اقتحام مبنى الكونغرس الأميركي في العام 2021، بزعم أنّ الفوز في انتخابات الرئاسة الأميركية قد “سُرق” منه.
كثيرون من بيننا هنا في إسرائيل يروون لأنفسهم ولنا أكاذيب كبيرة ينشرونها بين الآخرين، ثم يسمعونها وهي تُروى من قبَل كذّابين رفيعين، مثل نتنياهو الذي هو، من هذه الناحية، ليس مفكّراً يسعى إلى إنشاء مجموعة خطيرة من المؤمنين التابعين له، إنما هو أشبه بانتهازي تسلّقي ينضم إلى أغلبية قائمة تؤمن بالكذبة الكبيرة نفسها، والكذبة الكبيرة هذه هي: نحن لسنا احتلالاً. نحن لسنا مُحتلّين.
صحيح أنّ وصف ما نرويه لأنفسنا بأنّه “كذبة كبيرة” هو طريقة غير مهذّبة لوصف حقيقة أننا لا نود التحدث عمّا نرتكبه بحق للفلسطينيين، لكن ربما كان الأجدر بنا أن نبدأ باستخدام هذه التسمية لكي نزعزع أنفسنا بطريقة تجعلنا أولاً نرى الأمر الذي نختار تجاهله والتهرب من مواجهته، وثانياً، نتعامل مع الانعكاسات الهائلة لهذا التجاهل على السياسات القومية التي تعتمدها إسرائيل، وربما على مصيرها هي أيضاً.
نحن نقرّ هذه الكذبة ونكرّسها من خلال ترديدها وتكرارها مراراً وتكراراً على غرار ما فعل نتنياهو في ردّه على قرار محكمة العدل الدولية في لاهاي مثلاً أو من خلال تجاهل الاحتلال ومحاولة إخفائه من السجال الجماهيري العام، وكأنّ ما لا نتحدث عنه يصبح غير قائم وغير موجود.
في العام 2022 أرسى مستوطنون على شاكلة سموتريتش وبن غفير وغيرهما هذه الكذبة الكبرى في الخطوط التأسيسية العريضة للحكومة الجديدة، من خلال جزمهم بأنّ “الشعب اليهودي هو صاحب الحق الحصري وغير القابل للاستئناف في كل مناطق أرض إسرائيل”، وهو ما يعني أنّ “المناطق” هي مُلك لنا بأمرٍ إلهي، فليس ثمة احتلال ولا استيطان ولا أبارتهايد ولا اضطهاد، ولا حتى جرائم حرب.
منذ 7 تشرين الأول أصبح الانعكاس الأساس لكذبتنا الكبيرة هذه هو الادعاء بأننا نخوض “حرباً وجودية” ضد حركة “حماس”، حرب استقلال ثانية ضد أعداء لدودين حاولوا القضاء علينا في ذاك السبت المُرعِب، وسيحاولون ذلك مرة أخرى إنْ لم نُبِدْهم تماماً.
في هذه الحرب ما بين إسرائيل من جهة، والعالم كله من جهة أخرى، نحن نفترض أنّ الطلاب الجامعيين المناصرين للفلسطينيين هم، في أغلبيتهم الساحقة، أغبياء وسُذّج، بل معادون للسامية. نحن لا نستوعب أنّ كثيرين جداً من هؤلاء يفهمون كذبتنا الكبيرة ويفهمون، أيضاً، أننا نهاجم ونقصف ليس من أجل أن نبقى موجودين كدولة يهودية، بل من أجل أن نواصل الاحتلال.
التبرير الأكبر الذي نقدمه نحن لهذا الأمر هو ما نسمّيه “الصراع”، ذلك أنه إنْ لم يكن هنالك احتلال، بل “صراع” فقط، فمعنى ذلك أنّه بإمكاننا عزو نتائج الاحتلال، التي تبدو مسيئة وظالمة، إلى هذا “الصراع” الذي نشعر في إطاره بأننا مُهدَّدون بشكل دائم ومن دون توقف من جانب فلسطينيين معتدين. وعليه، نحن مُجبَرون بالتالي على اتخاذ الإجراءات والخطوات اللازمة، ليس للمحافظة على الاحتلال، بل على “القانون والنظام” في “المناطق”.
أي نوع من الصراع لدينا مع هؤلاء الناس؟ ما الذي يبرر حقيقة أننا، بعد مضي 55 سنة على الحرب، لا نزال نحتل أراضيهم بالقوة إلى درجة أنه ينبغي لهم، لأنهم “تصارعوا معنا”، الموافقة على التفاوض معنا ومنحنا جزءاً، على الأقل، من أراضيهم؟
نحن نخوض حرباً هي، في واقع الأمر، “أعمال بوليسية”، كتلك التي استخدمها البريطانيون لقمع التمردات إبان فترة الانتداب البريطاني، وهو ما يفسر، إلى حدّ ما على الأقل، أسباب رفض حكومتنا، حتى الآن، التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، ولو مقابل إعادة الأسرى، كلّهم أو بعضهم.
حتى عندما يقترح بايدن علينا خارطة الدولتين التي يمكننا بوساطتها الخروج من هذا “الصراع”، يتعمد نتنياهو وغالانت وليبرمان وساعر وغانتس وبن غفير وسموتريتش بالتأكيد الحديث عن استمرار القتال البري والغارات الجوية إلى أن تفقد “حماس” قدرتها على مضايقتنا أو، بكلمات أخرى، حتى تكبر “قوة الردع” لدينا إلى درجة لا تبقى فيها لدى “حماس” أو أي مجموعة أخرى من “المعتدين” الفلسطينيين أي قدرة على تحدّي الاحتلال مرة أخرى.
من وجهة نظر هؤلاء، ووجهة نظر إسرائيليين كثيرين يصدّقون هذه الكذبة ويرددونها، هذا هو ما سبّب أحداث السابع من تشرين الأول؛ ليس وجود الاحتلال فحسب، بل أيضاً الفشل في إنتاج المزيد من الردع القادر على إبقاء “حماس” في مكانها، وهذا، كما يقول الكذابون الكبار، هو ما يمكننا إصلاحه الآن.
* أستاذ في العلوم السياسية.