مـقـامـرة الـجـيـش الإسـرائـيـلـي فـي جـنـوب لـبـنـان
عن موقع “مركز بيغن – السادات للدراسات الاستراتيجية”
على ظهر النجاح غير المتوقع، من حيث شدته، المتمثل في سلسلة ضربات أطاحت بالقيادة العليا لـ”حزب الله” ومنظومات إطلاق الصواريخ لديه، انطلق الجيش بأوامر من الحكومة الإسرائيلية إلى حملة برية على لبنان.
أثّر الارتباك والخلل اللذان أصابا “حزب الله”، من دون شك، ليس فقط في قدراته في القيادة الاستراتيجية والتنظيمية، بل في قدراته التشغيلية أيضاً. فانخفض معدل إطلاق الصواريخ لدى الحزب في الأسبوعين الأخيرين بشكل ملحوظ، مقارنةً بالتوقعات التي وضعتها سيناريوهات الحرب للجيش الإسرائيلي. الأهم من ذلك، تراجعت جودة إطلاق الصواريخ، وهي القدرة على تنظيم قصف مكثف بالصواريخ لتجاوز الدفاعات الجوية الإسرائيلية، وكذلك القدرة على تحديد الأهداف في إسرائيل بدقة.
في ظل اختلال التوازن الذي يعاني جرّاءه العدو تظهر الأهداف المتواضعة لعملية “سهام الشمال” بشكل لافت. فمن ضمن كل ما قيل ونُشر يتمثل الهدف من العملية في إعادة سكان الشمال إلى منازلهم من خلال “تطهير” خط القرى اللبنانية القريب من الحدود الإسرائيلية والأراضي المفتوحة من البنى التحتية التابعة لوحدة الرضوان، والتي كان من المفترض أن تستخدمها الوحدة كنقطة انطلاق للهجوم على الجليل.
تتماشى الخطة، المتواضعة نسبياً، مع الهدف السياسي والضغوط الأميركية لتقييد الحرب. وفي الظاهر، قد تعني الخطة المحدودة أن المخاطر محدودة أيضاً، لكن من منظور عسكري بحت تستند هذه الخطة إلى افتراضات مبسطة، لكنها تنطوي على مخاطر تشغيلية كبيرة. ويُمكننا، من خلال تحديد هذه الافتراضات بوضوح ووضعها في أساس التقييم المستمر للوضع، التأكد مما إذا كانت الظروف تغيّرت، واتخاذ قرار بشأن تعديل الخطة بأسرع وقت ممكن، وبأقل تكلفة ممكنة.
وكما أسلفنا وبناءً على التقارير العسكرية الإسرائيلية، دخلت قوة تضم نحو فرقتين (ستنضم إليهما فرقة ثالثة قريباً)، أي ما بين 6 و10 فرق قتالية لوائية، إلى منطقة القرى والأراضي الخالية القريبة جداً من الحدود الإسرائيلية، بهدف تدمير البنية التحتية لوحدة “الرضوان” هناك. وبعبارة أُخرى: أولاً، بدأ الجيش الإسرائيلي بعملية تستهدف البنية التحتية، وليس العدو نفسه. وثانياً، يفضّل الجيش الإسرائيلي، إذا سمح العدو بذلك، تنفيذ المهمة من دون اشتباكات قتالية.
وعلى الرغم من أن القيادة العليا لـ”حزب الله” تم تحييدها وتدمير جزء كبير من المنظومات الصاروخية، فإن القوة البرية لدى الحزب في الجنوب اللبناني لم تتأثر كثيراً. إن البيانات العسكرية الإسرائيلية التي تشير إلى الأهداف المحدودة للعملية موجهة إلى الجمهورَين الإسرائيلي والأميركي، لكن لا يمكن استبعاد احتمال أن تكون موجهة أيضاً إلى العدو. وتتمثل الرسالة الضمنية للحزب في التالي: “إذا تجنّبت مواجهة القوات الإسرائيلية في العملية المحدودة، فسيتم تجنُّب توسيعها، وهو ما يتيح لقوات الجبهة الجنوبية فرصة البقاء في الحرب في غزة”. وإذا ما كانت هذه الرسالة صحيحة، فمن الواضح أن الاستراتيجية الإسرائيلية تسعى لإنهاء الحرب عبر اتفاق دولي، بعد تدمير البنية التحتية على طول الحدود.
من الناحية العسكرية البحتة تواجه الفكرة التشغيلية للقيادة الشمالية مشكلات. فنشر القوات الإسرائيلية في قطاع رفيع جداً، في مواجهة جيش “حزب الله”، الذي يمتلك مقدرات عسكرية كبيرة تشمل الهجمات بصواريخ مضادة للدروع، ومدافع الهاون، والكمائن، يعرّض الألوية الإسرائيلية لمبادرات العدو الخطِرة. وبرز هذا الخطر، على الأقل، من خلال معركة واحدة جرت حتى الآن، إذ أصيب نحو 50 مقاتلاً من كتيبة “إيغوز”. من الواضح أن الجيش الإسرائيلي يحاول التغلب على هذا الضعف بحماية القوات، عبر التركيز على الجهد الجوي الهائل، وعلى توجيه قوة نارية هائلة ضد الهضاب التي تشرف على قواتنا. ومع ذلك، ومن وجهة نظر عسكرية، سيكون من الأفضل تطويق جيش “حزب الله” في الجنوب اللبناني من خلال هجمات سريعة عبر الألوية نحو عمق الجنوب اللبناني، وقطع خطوط الإمداد على طول نهر الليطاني، أو الزهراني، أو الأولي، حيث تعتمد هزيمة العدو عادةً على تقليل الاحتكاك بالدفاعات الصلبة والتقدم بسرعة إلى العمق.
وعلى المستوى التكتيكي الدقيق، ينبغي تقليل الهجمات السريعة والحاسمة عبر الألوية من الخطر الرئيسي الذي يهدد القوات الإسرائيلية (تهديد الصواريخ المتقدمة المضادة للدروع. بشكل عام)، فالمعركة الخاطفة تجعل من الصعب على العدو الدفاع، وتقلّل فرص نصب الكمائن وإطلاق النار.
وعلى الرغم من مخاطرها، فإن استراتيجية “تنظيف” المنطقة الضيقة وإنهاء الحرب في الشمال، عبر اتفاق، هي اختيار شرعي. إن جيش “حزب الله” في الجنوب اللبناني يشكل تهديداً عسكرياً كبيراً قادراً على تكبيد الجيش الإسرائيلي خسائر فادحة.
وبعد عام من الحرب في غزة، لم يعد الجيش الإسرائيلي جيشاً ناشطاً، ومجهزاً، ومتحمساً مثلما كان في بداية الحرب على غزة. ربما يفضل العدو قبول مثل قواعد العمل هذه، سعياً للحفاظ على قوته، بدلاً من مواجهة الجيش الإسرائيلي واستعادة كرامته المفقودة، ويُحتمل أن تكون هذه التوجيهات إليه إيرانية.
ومهما يكن من أمر، يجب تحديد الافتراضات التي تستند إليها الخطة الحالية وفحص صحتها. ويجب أيضاً الاستعداد لحدوث تغيير فوري في الخطة في الشمال، إذا تبين أن العدو قرر عدم التعاون. وفي الواقع، قد يكون لعملية برية واسعة، بانتظار صدور الأوامر في منطقة إصبع الجليل ورأس الناقورة تأثير رادع في القرار الذي ستتخذه قوات “حزب الله” البرية في الجنوب.
هنا، علينا أن نعرف الحالة القائمة بوضوح:
بدأ الجيش الإسرائيلي هجومه على البنية التحتية، لا على العدو.
في هذه الظروف، عادةً، سيكون الاشتباك القتالي بمبادرة من العدو نفسه.
الخطة الحالية ليست مثالية، من حيث تأمين القوات. نحن نترك الوحدات الدفاعية والهجومية التابعة للعدو، التي لا تزال سليمة في معظمها، تراقب التحركات الإسرائيلية وتتصرف بناءً على ذلك.
إن اختلال التوازن، بطبيعته، هو أمر مؤقت. فكلما مرّ الوقت، قلّ أثر الضربات، واستعاد العدو قدرته التشغيلية. إن استعادة العدو ثقته بنفسه مع ظهور فرص تشغيلية على الأرض قد تثبت أن هذا المنطق هو السائد في صفوف قوات العدو في الجنوب.
إن اختيار استراتيجيا ساعية لوقف إطلاق النار عبر اتفاق، سيترك “حزب الله” حتماً كقوة عسكرية في لبنان.
إذا تحققت المخاطر المشار إليها في النقاط 1-4 في عدة أحداث متتالية، فيجب تنفيذ خيار تطويق الجيش البري لـ”حزب الله” في الجنوب بسرعة. ويجب تحضير مثل هذه الخطة، بصفتها إجراءً عملانياً، وتهديداً ضمنياً للعدو.
أمّا النقطة الخامسة، فتتعلق بالاستراتيجية الإسرائيلية. وفي الوقت الحالي، لا تسعى هذه الاستراتيجية لنزع سلاح الجنوب اللبناني بالقوة، بل للتوصل إلى اتفاق سياسي ما، على الأرجح اتفاق يتقمص روح القرار 1701، وهو قرار مجلس الأمن الذي أنهى حرب لبنان الثانية. ونظراً إلى أننا تعلمنا جميعاً من التجارب مدى صدقية آليات نزع السلاح لدى أعدائنا، فإن المعنى الاستراتيجي هو أن الحرب الحالية في لبنان ليست سوى مقدمة للحرب القادمة.
إن استراتيجية الجيش، كما أسلفنا، ليست بالضرورة استراتيجيا خاطئة. لكن علينا أن ندرك أن “حزب الله”، على الرغم من النجاحات التي حققتها ضرباتنا حتى الآن، ليس جيشاً مهزوماً، وخصوصاً وحداته البرية في الجنوب. إسرائيل تقاتل على سبع جبهات، وإطالة أمد الحرب في لبنان تخدم حركة حماس في غزة إلى حد كبير، والتي خفّ الضغط عليها. ومن الصعب أيضاً رؤية آلية واضحة لإنهاء الحرب المباشرة التي بدأت بين إيران وإسرائيل. إن كل استراتيجيا تنطوي على مزايا وعيوب، والمهم فهمها.
تسعى الاستراتيجية الحالية لتقصير أمد الحرب الطويلة التي تورطنا فيها. المعنى الرئيسي لذلك هو أن حرب لبنان الحالية لن تكون الحرب الأخيرة. أمّا في الحرب القادمة، فسيتعلم “حزب الله” من دروس فشله في هذا الصراع. ولن تتمكن إسرائيل في المستقبل من الاعتماد على سلسلة من العمليات السرية لتوفّر لها المزايا نفسها. من المحتمل أيضاً ألّا يتجدد بنك الأهداف بالسرعة نفسها، نظراً إلى تعلّم العدو دروساً بشأن أمن المعلومات. تُدار الحرب الحالية بتكتيكات مكافحة “الإرهاب”، مثل اغتيال القادة البارزين، التي حققت إنجازات تشغيلية مفاجئة. ومع ذلك، وعلى الرغم من هذه النجاحات، فإن القرار الإسرائيلي على الأرض تمثّل في عدم استغلال هذه اللحظة لهزيمة جيش “حزب الله”. ومثل هذا القرار لا يعكس ثقة مفرطة بالقدرات العسكرية.
للقضاء على القوة العسكرية المستقبلية لـ”حزب الله”، المستفيدة من دروس الحرب الحالية، سيتعين على الجيش الإسرائيلي أن يصل، ليس فقط بإصرار أكبر، بل بتكيُّف أفضل، إلى تلك الحرب. وينبع الحذر الإسرائيلي الحالي، على الأقل جزئياً، من إدراك أن قواتنا العسكرية عرضة بدرجة غير صحية لقدرات العدو النارية، وليست فعالة بما يكفي لـ”تطهير” الجنوب من دون الانغماس في حرب عصابات أبدية.
قد تنجح الاستراتيجية الحالية، وقد نتمكن من إعادة سكان الشمال والتوصل إلى اتفاق. لكن هذا النجاح، إذا تحقق، لن يعكس فقط الإنجاز العملياتي للضربات الجوية والسرية التي نزلت على العدو، بل سيكشف أيضاً عن حدودها. لن يقوم أحد بتفكيك “حزب الله” في لبنان نيابةً عنا. وإذا ما احتفظ الحزب بجزء كبير من قوته، فستظل قدرته على الردع قائمة. ولن تتمكن إسرائيل من فرض نزع السلاح بالقوة. إن هزيمة الحزب، مع بقائه أيضاً، سيجعلان الساعة الرملية تتجه نحو مواجهة قادمة مع عدو أكثر ذكاءً وأكثر حرصاً على استعادة كرامته.
إذاً، تؤشر الحرب الحالية إلى بداية المنافسة بين الطرفين، تحضيراً للحرب المقبلة. قد تكون هذه المواجهة الحاسمة، ليس فقط في الشمال، بل أيضاً في مستقبل المحور. وعلى الجيش الإسرائيلي تطوير قدرة واضحة وحاسمة على إنهاء العدو عسكرياً. قدرة عسكرية، وليس مجرد تمديد لأساليب مكافحة “الإرهاب”.