الاستيطان في غزة..رسائل سياسية داخلياً وخارجياً
عن “هآرتس”
من السهل أن ننهي الحديث عن إعادة الاستيطان في غزة، باعتباره نزوة سياسية داخل التيار اليميني. يتنافس كلٌّ من بن غفير، وسموتريتش، ونتنياهو، ومَن بعدهم ممن يسعون لخلافة نتنياهو في قيادة حزب “الليكود”، من الذين يتنافسون على الظهور بمظهر الأكثر تطرفاً وتعصباً وميلاً نحو النزعة المسيانية. فمن يفوز بقيادة الحزب سيكون هو مَن يطلق أسخف الأوهام غير القابلة للتحقق، وأكثرها استفزازاً.
من الواضح أن بناء المستوطنات في غزة لن يحدث، حتى لو عاد ترامب إلى البيت الأبيض. فترامب، في خطته التي أطلقها في سنة 2020، وهي الخطة التي أشاد بها كلّ من رآها (نتنياهو وغانتس)، لا يوجد أيّ ذِكر لوجود إسرائيلي في غزة. بل إن هذه الخطة تشمل تنازلاً عن أراضٍ في النقب الغربي للفلسطينيين، تعويضاً عن ضمّ المستوطنات في الضفة الغربية.
أمّا إذا فازت هاريس، فستستمر الإدارة الديمقراطية في التمسك بنهج بايدن – بلينكن الذي يرفض أيّ استيلاء إسرائيلي على أراضي غزة. لن تقدّم أيّ دولة قوات للمشاركة في إطار دولي، أو عربي، لتأمين غزة، بعد سقوط حُكم “حماس”. ولن تساهم أيّ دولة، أو دولة متبرعة، بدولار واحد لإعادة الإعمار المدني. وإذا جرى إنتاج الحلقة التالية من هذه السلسلة الخيالية المتمثلة في الاستيطان في غزة، فإن عدداً كبيراً من الجنود، وخصوصاً جنود الاحتياط، سيرفض تقديم الحراسة لهذه الاستفزازات السخيفة.
ليس الأمر سوى استمرار طبيعي لظاهرة غير طبيعية: تخلّي الدولة عن ريادتها، وعن احتكارها مجالَي الأمن والسيادة الخارجية الحسّاسَين. ومثل هذا الموقف لا يمكن أن يحدث إلّا في دولة يقف على رأس سلطتها التنفيذية شخص على وشك أن يُدان بتهم الفساد، في محاكمة مستمرة منذ أربعة أعوام ونصف العام، منها سنة حرب.
وعلى الرغم من القاسم المشترك الذي لم يكن وليد صدفة في بداية الأمر بين نهج الدولة الرسمي وبين الحركة الاستيطانية، فإن المستوطنات ليست سوى نقيض لنهج “ناحال”[1]، فلقد تفتت جهاز “ناحال”، الجهاز الرسمي، وحلّت محله مبادرات مناهضة لعمل الجهاز الرسمي نفسه. لقد قفز نهج الخصخصة، في هذه الحالة، من الاقتصاد، ليتحول إلى نسق جهود مجموعات الضغط في فرض السياسات على الحكومة.
لم تكن نقاط “ناحال” سوى وحدات عسكرية. يمكن نقلها بأمر عسكري، أو توجيهها إلى مهمة أُخرى في مكان آخر. لكن المستوطنة، في المقابل، هي نقطة مدنية، حتى لو كانت تقع في أرض محتلة، وتخضع لسلطة الحاكم العسكري نظرياً. وفي الواقع، باتت القوى السياسية (اليمينية) توجّه الحكومة التي تقود الجيش لوضع المستوطنات فوق قيادة المنطقة، وليس تحت حكمها.
لم يعد هناك “ناحال” منذ سنوات، على الرغم من أن شعار المنجل والسيف لا يزال محفوظاً لـ”ناحال”، وهو لواء المشاة النظامي الذي يحمل الاسم نفسه. إن فكرة بن غوريون المزدوجة، في نهاية “حرب الاستقلال”، والمتمثلة في التدريب القتالي والزراعي، تلك الفكرة التي كان من المفترض أن تغذي الجنود المتقاعدين عبر الاستيطان بعد الخدمة الإلزامية، واندثرت بمرور الزمن.
في سنة 1980، قدّم موشيه نيتسر، وهو أحد أبرز قادة “ناحال”، ظروف تأسيس هذه الطريقة في أواخر الأربعينيات. لقد كان نيتسر، عضو كيبوتس “رمات يوحنان”، من أوائل أعضاء “بلماح” ومن الموالين لحزب “مباي” في القيادة العليا. في قائمة مرشحي الحزب للدورة البرلمانية الأولى في الكنيست.
اقتبس نيتسر في محاضرته من موشيه دايان الذي رأى في “ناحال” هدفاً (الاستيطان) ووسيلة (التجنيد العسكري). وقال: “تم تدريب أنوية (ناحال) في الجيش كجنود مقاتلين، ليس فقط بهدف دمجهم في الدفاع المحلي عند وضعهم في المستوطنات، بل لأن دورهم كبير في تعزيز الأمن. بالإضافة إلى ذلك، تم تكليف (ناحال) إنشاء مستوطنات مستقلة على الحدود، وفي مناطق نائية وحساسة”.
حتى حزيران 1967، كانت الحدود عبارة عن خطوط هدنة، باستثناء فترة وجيزة بين عملية “قادش” والانسحاب الأول من سيناء. وخلال تلك الأشهر الأربعة سارع الجيش الإسرائيلي إلى إنشاء مستوطنتَين صغيرتين، اضطر لاحقاً إلى تفكيكهما، هما، “ناحال ترشيش” (في شرم الشيخ) و”ناحال رفح”.
كان ذلك تجسيداً واضحاً لطبيعة “ناحال” كوحدة عسكرية لا تختلف عن كتيبة مدفعية، أو ورشة عمل تابعة لسلاح الصيانة: يمكن تحريكها وفقاً للأوامر، إمّا للدخول، وإمّا للخروج. وهذا ما جرى تطبيقه في الشمال والوسط، وفي النقب والعربة.
جرى إنشاء مستوطنات “ناحال” في المنطقة المقابلة لغزة، قبل حرب 1956، والتي أصبحت لاحقاً الكيبوتسات “ناحال عوز”، و”كفار عزة”، و”نير عوز”، و”كيرم شالوم” و”تسيئليم”. كان بين هذه المستوطنات نقاط استيطانية أُنشئت على يد جنود أفراد، بخلاف نواة “ناحال” التي أكملت العامين الأولين من الخدمة الإلزامية. هؤلاء الجنود، وفقا لينتسر “كان من المفترض أن ينتقلوا إلى وحدات أُخرى في الجيش، لكننا أردنا الاستفادة من خبرتهم ووجهناهم لتأسيس مستوطنات عسكرية في مواقع أمنية مهمة. وقمنا بتوجيه مجموعات من هؤلاء الجنود إلى “جونين” (على الحدود السورية) و”ناحال عوز”. وبعد عام، عندما جاءت نواة حركية لاستبدالهم، رفض عدد كبير منهم مغادرة المكان”.
بعد حرب الأيام الستة، بدأ التدهور على مقلبين: مقلب إنشاء نقاط استيطانية في الأراضي المحتلة التي أصبحت مستوطنات، ومقلب استسلام الحكومات، بالتدريج، لتحركات “غوش إيمونيم”[2].
قال نيتسر في محاضرته أيضاً: “لقد تم إنشاء مستوطنات (ناحاليام)، و(ناحال سيناي)، و(ناحال ديكلا) في منطقة رفح، لأسباب أمنية أساساً، لكن مردّ الأمر كان نابعاً من رؤية سياسية طويلة الأمد”.
هنا على المرء أن يتساءل: رؤية سياسية؟ وطويلة الأمد؟
إلى أيّ مدى يمكن أن تكون تلك الرؤية طويلة الأمد، بعد أن عرفنا مآلات حرب “يوم الغفران”، ومبادرة السلام التي طرحها السادات، وما نتج منها من إخلاء للمستوطنات، بما فيها مستوطنة “ناحال سيناي” التي نُقلت من منطقة العريش شمالاً إلى مستوطنة “نؤوت سيناي” (والتي تم إخلاؤها، بدورها، بعد فترة قصيرة)؟
لقد اصطدمت أوهام “فرض الحقائق على الأرض” بفرض حقائق جديدة من الجانب الآخر: لن يكون هناك قبول للحقائق التي تم فرضها. والمستوطنات لم تخلق ردعاً في نفس الطرف الآخر، بل إنها لم تفعل شيئاً سوى استفزازه.
قال نيتسر أيضاً: “جرى إنشاء مزيد من المستوطنات العسكرية في قطاع غزة. عندما صدر القرار بشأن الاستيطان في (نيتساريم)، و(موراغ)، و(غوش قطيف)، كانت أسباب ذلك القرار أمنية في أساسها. لقد قرر وزير الزراعة حاييم غفتي إنشاء مستوطنات عسكرية في تلك المنطقة، من دون تحديد الهدف الاستيطاني النهائي مسبقاً”. ومن دون وحدات “ناحال”، لم يكن تجمّع “غوش قطيف” الاستيطاني ليظهر إلى الوجود (ثم يتم إخلاؤه لاحقاً).
من الممكن أن يفهم المرء إحباط رابين عندما كان رئيساً للوزراء في السبعينيات، ومرة أُخرى في التسعينيات، عندما رأى أن الحكومة لا تسيطر على مكان، أو توقيت إنشاء المستوطنات في الضفة الغربية؛ في حين كان المستوطنون يحظون بدعم غليلي وألون (في حكومتَي ليفي إشكول وغولدا مئير)، وبيريس، ورئيس الأركان غور. لقد شكلت تلك الفترة مرحلة انتهاء احتكار مؤسسات الدولة للقرارات وتنفيذها فيما يتعلق بالأمن والسياسة.
من الناحيتين السياسية والأمنية، لا تُعد سيطرة 5% من سكان إسرائيل على مصير الـ 95% الآخرين مشكلة “طويلة الأمد” فحسب، بل تشكل مدخلاً إلى كارثة مستمرة. لقد كان إخلاء غزة من المستوطنات خطوة صحيحة، على الرغم من أن المستوطنين دانوا ذلك كيلا يكون مقدمة لِما قد يحدث في الضفة. أمّا الجدل الأمني بشأن الإخلاء، فقد ركّز على الثمن العسكري لانسحاب الجيش الإسرائيلي، سواء الثابت أو المتنقل، من غزة، من بعض النقاط من محور “فيلادلفيا” إلى “الشريط الشمالي” المتاخم لكلٍّ من “إيريز” و”نتيف هعسراه”. كانت المستوطنات، بعكس دعاية المستوطنين، عبئاً على الدولة، وليست أصولاً ينبغي حمايتها.
بناءً على كل ما ذُكر أعلاه، لا يمكننا سوى أن نستسخف بتلك الفكرة العبثية المنادية بإعادة الاستيطان المدني في غزة. لن يحدث هذا الأمر فعلاً، لكن مجرد النقاش السياسي بشأن هذه الفكرة الباطلة يُظهر للجميع، في الداخل والخارج، مَن هم أصحاب القرار الفعلي هنا. هذه هي الغاية التي يسعى لها مروّجو هذا الوهم، وقد نجحوا في تحقيقها.
[1] اعتمدت الدولة الإسرائيلية في بداياتها على نموذج مستوطنات “ناحال” (الاختصار العبري لعبارة: الشباب الطليعي المقاتل) كأداة لفرض الأمن وتوسيع السيطرة على المناطق الحدودية. كانت هذه المستوطنات تتميز بكونها تجمعات زراعية وعسكرية في آن واحد، حيث تم إرسال مجموعات من الجنود الشباب إلى المناطق الحدودية والمناطق الاستراتيجية لإنشاء نقاط استيطانية تعمل كحواجز أمنية ضد التهديدات الخارجية. إلى جانب تدريبهم العسكري، كان هؤلاء الجنود يمارسون الزراعة، وهو ما عزز وجودهم الدائم في هذه المناطق، وجعلهم قوة دفاعية فعالة. الهدف الأساسي من هذه المستوطنات كان تعزيز السيطرة على الأراضي وتوفير وجود أمني دائم في مناطق حساسة، بالإضافة إلى إرساء حضور مدني في المناطق النائية، وهو ما ساعد في ترسيخ السيادة الإسرائيلية في المناطق الحدودية. ولاحقاً، كان يتم تسليم هذه المستوطنات العسكرية لقوى مدنية، أي للمستوطنين.
[2] غوش إيمونيم: حركة استيطانية صهيونية دينية تأسست في أوائل السبعينيات في إسرائيل، بعد حرب 1967. كانت تهدف إلى تعزيز الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان، باعتبار هذه المناطق جزءاً من “أرض إسرائيل التاريخية”. استمدت الحركة قوامها الأيديولوجي من المفاهيم الدينية والقومية، ورأت في التوسع الاستيطاني تحقيقاً للرؤية الصهيونية وتجسيداً لمشروع استعادة الأرض. لعبت الحركة دوراً رئيسياً في إنشاء العديد من المستوطنات في الضفة الغربية، وكان لها تأثيرات سياسية واجتماعية قوية في السياسات الإسرائيلية المتعلقة بالمستوطنات، يعدّ تيار وزير المالية الإسرائيلي سموتريتش الوريث الشرعي لهذه الحركة في السياسة الإسرائيلية.