تحدثنا في مقالة سابقة عن هذا العالم الذي تحول إلى بناء من طابقين (عالم بطابقين.. أينك يا فوكوياما؟).
لننظر إلى الطابق الأعلى.
هذا الطابق ليس كامل الانسجام، سمعنا عن مجموعة السبع (*) وعن مجموعة العشرين (**) ولا ننسى البريكس (***).
ما أضيف إلى السبعة ليصل عشرين عضوا شكلت نوع من الترضية السياسية لهذه الدول بحجة اقتصادية في محاولة لكسب جيوسياسي.
أما البريكس فكان منذ البداية حلف جيوسياسي للتصدي لمجموعة السبعة التي شئنا أم لا هي راس حربة الحلف الأطلسي.
إذا نظرنا إلى هذه المجتمعات السبع (مع ضم الاتحاد الأوروبي المقفل بواسطة سمسم شنغن) وكيفية تعاملها مع احداث العالم وردات فعلها نرى وكانّها تعيش على كوكب آخر !
ولكن لا تظنن ان هذه الملايين (مليار نسمة) ذات قلوب قاسية او عديمة الإنسانية او ان لا حس رهيف لديها. لا على عكس هذا الظن، فهي رهيفة الإحساس إنسانية العواطف ورقيقة القلب. فهي تنعم بوجود مريح وآمن وبرفاهية لا بعدها مقياس. كل ما في الأمر ان عقلها “مدجن” (يكفي قراءة ادوار سعيد والاستشراق) كما ان للإعلام دورا لا يستهان به في “تشحيل” الأخبار وتعقيمها.
كيف؟
لا كذب ولا تدجيل! الأمر يحتاج إلى الغوص في علم التواصل والالسنيات مع بعض الرزاز من علم النفس، الذي يتكيء على “باتوس” (pathos) هذه الشعوب وما زرعته عقود من الاستعمار وتوليفة الاستشراق، أي النظرة الفوقية مزروعة في نفوس هذه الجماهير من دون علمهم وهي تندس في لاوعيهم العميق.
في الإعلام حدث ولا حرج لنأخذ غزة ومشاهد غزة و٤٠ ألف قتيل في غزة كمثال اليوم: مشاهدة النشرات الإخبارية في قناة غربية عموما، نرى أن توجد قواعد غير مكتوبة يلتزم بها أي صحفي مقدم الأخبار. وعلى سبيل المثال وليس الحصر: الفلسطينيون هم دائما من يهاجمون إسرائيل بينما هذه الأخيرة تدافع دائما عن نفسها تحت بند الانتقام المشروع. الفلسطينيين يقتلون مدنيين وهذا هو الإرهاب، أما قتل اسرائيل للمدنيين فهو أيضاً حق مشروع محاربة للإرهاب. وعند قتل عدد كبير من الفلسطينين فإن بيانات القوى الغربية تتصدر النشرة لتطالب بـ«ضبط النفس».
للغرب حساب مع إيران؟ إذا عندما يذكر الصحفي تعبير «مقاومة» (إذا حصل هذا) عليك أن تضيف «المدعومة من إيران».
الأراضي المحتلة؟ تعبير فضفاض بعيد عن قرارات الأمم المتحدة وعن القانون الدولي واتفاقيات جنيف الدولية أما اتفاقيات أوسلو وآيات بلانتيشن وطابا إلخ … فهي بالطبع في عالم المجهول. المدعون إلى نشرات الأخبار هم بالطبع مراسلين اسرائيليين يتحدثون اللغات الأجنبية، بينما ترجمة ما يقوله المُهَجَر الذي فقد عائلته تتم ترجمته عبر … مراسلة سابقة في اسرائيل. كل انتقاد لهذا الانحياز هو «عين اللاسامية»… التي بات تعاقب عليها القوانين في معظم هذه الدول!
لنترك غزة في شهري الفرص الصيفية لنعود إلى رفاهية مجتمعات الطابق الأعلى.
كل ما يحدث حول العالم لا يؤثر قيد انملة على حياة وروتين سكان مجتمعات الغرب. حجوزات الفنادق وحركات الطيران لا تتأثر أهالي الشمال الأوروبي يتوجهون إلى شواطئ الجنوب الأوروبي، نشرات الأخبار تبدأ بأحوال الطقس وريبورتاجات حول مخيمات الاصطياف ومناطق جديدة تبهر أنظار المتابعين.
حدث جليل مثل هدة أرضية تأخذ «٤٥ ثانية» في نشرات الأخبار وتعود لها القنوات بعد يومين في ريبورتاج يستجلب الشفقة ولكنه في آن واحد يثبت مجتمعات الرفاهية بضرورة المحافظة على وضعهم حيث لا يصيبهم ما يصيب «الآخرين». حرب غزة تكتب عنها الصحافة كل يومين أو ثلاثة، في سياق مباحثات بعيدة عن أرض الرفاهية.
ولكن الأهم هي رفاهية الحياة اليومية بمعناها الواسع: أي الأمن والأمان في كافة المجالات.
– في مضمار الأمن الصحي تؤمن السلطات حماية مستدامة وترفع سداً منيعاً عند أي أزمة صحية، تلتفت لشعوبها قبل الشعوب الأخرى وقد اثبتت جائحة كوفيد هذه الثابتة في التصرف.
– في مضمار نهاية الحياة : فالتقاعد مؤمن وشهرية نهاية الخدمة تصل لهذه الشعوب أينما حلوا داخل تلك الدول أو حتى خارجها.
– في مضمار العلم والثقافة تؤمن حكومات تلك الدول افضل سبل التعليم ونشر المعرفة المتقدمة للمحافظة على السبق الحضاري والتقني الذي يديم التفوق. وأثبت ذلك نشر وانتشار العلوم الرقمية امس والذكاء الاصطناعي اليوم وغداً وبعد الغد البعيد
– في مضمار البيئة تبحث تلك الدول على حماية أراضيها من الاحتباس الحريري بفرض نظم تعيق تقدم «الطابق الأسف» أي الدول الفقيرة، رغم أن الاحتباس الحراري هو وليدة سياسات الدول الصناعية. أضف إلى أنه حتى زمن قصير جداً كانت حاويات القمام والنفايات الصناعية تذهب لتلوث أفريقيا مقابل بعض الدولارات.
– في مضمار الأمن الغذائي والمياه فإن سياسة حكومات تلك الدول تضمن درعاً غذائياً لشعوبها وتؤمن استمرارية تدفق المياه ودعم الزراعة وهي عوامل مترابطة . أنظر إلى اخضرار تلك الدول وطفرة المياه المتواجدة بغزارة.
– في مضمار الأمن والأمان فإن مبدأ حماية مواطني دول الرفاهية هو ثابتة ومؤسس لقواعد تلك الدول: الامبراطورية البريطانية كانت أول من شن حملات عسكرية لانقاذ أي مواطن لها في أقصى المعمورة إستانداً إلى مبدأ المحافظة على الانسان وحريته المعروف بـ «هَبيياس كوربوس» (habeas corpus). اليوم تتحرك الأساطيل لنجدة مواطني دول الرفاهية هذه.
هذا الأمان في كافة المجالات يجعل هذه الشعوب متمسكة بأنظمتها لا تريد بأي شكل من الأشكال التنازل عن سلم الرفاهية التي تؤمنها لها سياسات بلادها.
هذا الأمن الذي يعكره من حين لآخر عمل إرهابي أو هجوم من ذئب متوحد، ولكن ينساه المتواجدون في دائرة الاستهداف ويصبح غائباً في المناطق البعيدة عن الحدث ويغوص في نسيان سكان تلك الدول بعد أقل من اسبوعين . لتعود حياة الرفاهية إلى مجاريها بعد الأخذ ببعض الاحتياطات الأمنية.
نعود إلى غزة … واسرائيل.
حتى السابع من أوكتوبر ٢٠٢٣ كان يمكن تصنيف اسرائيل وسكانها من ضمن «دول الرفاهية». كان مستوطنوها يعيش في ظل أمان القوة العسكرية وما يحصل من أعمال مقاومة كانت تبدو بعيدة لا تؤثر على سياق الرفاهية، وكانت الدولة العبرية تؤمن كافة ما تؤمنها الدول الغربية الراقية من أمن صحي وأمن اجتماعي وثقافي ورفاهية.
في لاوعي الدول الغربية كانت اسرائيل «مماثلة» لهم متقدمة تقنياً وحضارياً ،لكن بشكل خاص تقدم الأمن لمواطنيها حيث نسب عالية منهم مزدوج، الجنسية … أي يحملون جنسيات دول الرفاهة.
عندما تكتب الصحف العبرية وتصف حرب غزة بأنها وجودية فهي تشير إلى هذا الابتعاد عن دول الرفاهية. بهجوم ٧ آوكتوبر صفه كما تريد إرهابي أو عمل مقاومة فهو «سلخ اسرائيل» عن دول الرفاهية الغربية أفضل مثال استطلاعات الرأي التي تشير إلى خوف ورغبة بالهجرة المعاكسة.
هل أظهر استطلاع فرنسي أو اميركي أو بريطاني عن خوف مواطني تلك الدول بعد عمل ارهابي ورغبتهم بهجرة فرنسا أو أميركا أو بريطانيا؟ هذه الإجابة على سبب كون هذه الحرب وجودية للدولة العبرية.
* كندا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، واليابان، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة
** الأرجنتين وأستراليا والبرازيل وكندا والصين وفرنسا وألمانيا والهند وإندونيسيا وإيطاليا واليابان وجمهورية كوريا والمكسيك وروسيا والمملكة العربية السعودية وجنوب إفريقيا وتركيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة
وهيئتين إقليميتين: الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي
*** برازيل، روسيا والصين وأفريقيا الجنوبية السعودية، الإمارات، مصر، إثيوبيا، إيران