فرنسا وإيران و«المقايضة السوريّة»
باريس ــ بسّام الطيارة
أيضاً بعد الملف السوري، وفي نفس المقابلة التي أوردتها صحيفة «لوموند» بتاريخ ١٦ آذار/مارس، يسجل وزير الخارجية الفرنسي ألآن جوبيه «تراجعاً طفيفاً» و«ومزيداً من التقدم» في ملف التحالف مع اسرائيل.
ويتفق المراقبون على أن «جرعات التغيير» التي تشهدها الديبلوماسية الفرنسية هي مقدمة لإعادة تقييم كاملة للمقاربات الفرنسية لمجمل ملفات منطقة الشرق الأوسط استناداً للتغيرات التي حصلت والتي شبهها مصدر مقرب من الدوائر هنا بـ«ثورة المفاهيم الاستراتيجية والتحالفات». بالطبع يسعى خبراء «الكي دورسيه» ومراكز الدراسات التي تمدها بحثيات ومواد بحثية لدعم بناء سياساتها بالنسبة لعدد من الأطر السياسية والاقتصادية والاجتماعية مع أخذ بعين الاعتبار لعدد من العوامل، مثل ازدياد قوة الإسلام السياسي ووصوله إلى المرافق الحكم في ثلاث دول اجتاحها الربيع العربي، والمنافسة المخملية بين الاسلام السياسي متثملاً بحركة الإخوان المسلمين وامتداداتها في العالم العربي و«الإسلام السلفي المتطرف». أما في الجانب الاقتصادي فإن انقلاب موازين القوى المتوقع في مصادر النفط بعد بروز «الغاز» كمصدر أساسي ليس في الخليج فقط بل في الأبيض المتوسط أيضاً في شمال أفريقيا، يخلط أوراق النفوذ ويخفف من الاعتماد على «الثقل السياسي للخليج». يضاف إلى ذلك ضرورة الانتباه إلى «التغيير الذي فرضه تصلب موسكو» ومتانة موقف الصين على رقعة موازين القوى في مناطق متعددة من العالم وليس فقط الشرق الأوسط.
ويبدو أن مقابلة جوبيه مع «لوموند» جاءت مناسبة لإفراغ جعبة جوبيه والبوح بمؤشرات التغيير المقبلة وهي وإن تضمنت «قبولاً بواقع عدم هزيمة النظام بسوريا»، لكنه يلوح إلى إمكانية مراضاة سندي النظام السوري طهران وموسكو مقابل تغيير رأس النظام السوري وهو ما لا يمس مصالح الدولتين ويمكن أن يحمل موافقة واشنطن التي باتتلا تخفي قلقها من «الراديكالية الإسلامية للثورة في سوريا» خصوصاً مع الريبورتاجات التي «لا تظهر سوى ملتحين» حسب قول أحد الخبراء. رغم هذا ما زال موقف السعودية وقطر «الذاهبتين نحو تسليح الثورة» يرسم علامة استفهام كبيرة حول ما تبحث عنه العاصمة الأميركية، إذ يدرك الجميع أن الرياض والدوحة يمكنهما أن «يعاندا باريس أو لندن ولكن من الصعب تصور دعمهما المعلن والمفتوح من دون ضوء أخضر أميركي».
إلا أن الخبير لا يستبعد أن تكون «مسألة تسليح الثورة السورية مناورة ضغط هدفها الجبهة الإيرانية». إذ بات من نافل القول إن الصراع في سوريا بدأ ينزلق رويداً رويداً إلى «صراع بين الوهابية السياسية وبين التمدد الإيراني الشيعي». ومن هنا يمكن أن يكون «ردع إيران هو ثمن لإبقاء النظام السوري شرط تغيير الوجوه الحاكمة». وقد يفسر هذا قول جوبيه بأن «المبادرة العربية لم تقصد عزل بشار الأسد، بل فقد تنحيته ليقود التغيير السياسي نائب الرئيس»، على أن «نجد حلاً لمستقبل بشار» حسب قول الخبير.
ولكن هل يكفي تبريد «الساحة السورية التي هي إحدى أوراق الضغط» لطمأنة إيران، وخصوصاً في ظل التهديدات التي تصدر من اسرائيل يوميا بقصف مواقعها النووية؟ سؤال وجه إلى جوبيه وما إذا «يخشى من السيناريو العسكري ضد إيران بعد الزيارة التي قام بها مؤخرا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى الولايات المتحدة، وهل زادت احتمالات العمل العسكري؟ أجاب وزير الخارجية الفرنسي أنه «لا يعتقد أن الاحتمالات ازدادت». ولكنه استطرد مباشرة بأن هذه الاحتمالات لم تتراجع» ، وأشار إلى أن إلى أن مجموعة٥+١ (الدول الست المعنية بالملف الإيراني) مستعدة للتفاوض مع طهران حول برنامجها النووي ولكن «من بدون شروط مسبقة من قبل إيران» وأن فرنسا مصممة على أن تكون «حازمة أي لا رفع للعقوبات من دون الامتثال للقرار ١٩٢٣ الصادر عن مجلس الأمن» أي وقف تخصيب اليورانيوم ووفتح الأبواب للمراقبين الدوليين.
وعندما سئل عن سبب مواقف فرنسا الرافضة لأي «تسوية»، أجاب جوبيه وهنا ظهر التغيير البسيط بالنسبة للملف الإيراني «بما أن كثيرين يبدون مستعدين للتسوية يكون موقفنا ضمانة بأن لا تذهب بعيداً هذه التسوية».
لا يمكن أن يكون إعلان القبول بتسوية أوضح من هذه اللغة الدبلوماسية البارعة.
إن جوبيه يعلن بطريقة دبلوماسية واضحة أن «أكثرية في مجموعة ٥+١» مستعدة لتسوية مع إيران. قد يفسر هذا خوف اسرائيل من «أي تسوية» وسبب تحركها وتهديداتها، إلا أن جوبيه أعطى ضمانات قوية لإسرائيل أتت وكأنها ضمن التسوية بين مجموعة «٥+١» وتل أبيب، فقد أتى جوابه بإعلان دعم صريح لإسرائيل بقوله «يعتبرون في إسرائيل أن فرنسا لا تتراجع عن مبادئها وأن مواقفها تدعم حماية إسرائيل».
وعندما طرح على جوبيه سؤال حول موقف فرنسا في حصول عملية عسكرية إذ أنها لم تعلن كما هو حال بريطانيا والولايات المتحدة بأن «كل الخيارات على الطاولة» وهل تشارك بها؟ أجاب بأن الرئيس ساركوزي قال في الأمم التحدة «إذا حصل تهديد لأمن إسرائيل فإن فرنسا سوف تقف إلى جانبها». وعندما ألح السائل ما إذا كان ذلك يعني إمكانية أن تشارك فرنسا في أي عمل عسكري بمجرد حصوله؟ أجاب جوبيه بجزم «لا». واستطرد «فقط في حال هجوم على إسرائيل سوف نقف إلى جانبها، ولن لن نساعدها لمهاجمة بلدان أخرى».
قد تكون وراء هذه التصريحات بعض الحسابات الانتخابية إلا أنه لا يخفى عن أي متابع بأنها تحمل «تغييرا نوعياً في مقاربة الملفين السوري والإيراني»، ومن المتوقع أن تحمل الأيام المقبلة «توضيحات أكثر صراحة» مع تفسير للأسباب الموجبة لهذا التغير وفي مقدمتها الأزمة المالية وضرورة مراعاة الدول الناشئة الكبرى ليس فقط الصين وروسيا، إذ أن الهند أيضاً باتت تتخوف من أن تسعى الدول الغربية إلى «تقنين مصادر الطاقة» لاستيعاب صعود قوة هذه الدول. وفي هذا الصدد وجهت نيودلهي رسالة واضحة بتوقيع اتفاق مع طهران حول سبل تسديد واردات النفط من دون المرور بالأسواق الغربية.