قليل من الحب
جميل أن يخرج المرء من رتابة الهموم السياسية وغمومها إلى منطقة إنسانية أكثر رحابة وسلاسة فيتحدث عن الجمال والعطر والحب والزهور.
نعم الحب، أقوى من السياسة. والحب في زماننا صار مثل الأشياء النادرة الوجود، فهو إن وُجد نراه يكون لمصلحة ما، أو خضوعاً لضرورات معينة أو استجابة لرغبات محددة، ليس إلاّ.
أما ذاك الكيمياء الذي يجعل الانسان يرتعش لحظة التفكير بمحبوبته، فهو ينبغي أن يخضع الانسان لتجارب واختبارات ويواجه انفعالات معينة تؤكد صدق هذه التركيبة الكيميائية من عدمها.
فكثير من العلاقات العاطفية أو الزوجية التي نشهدها في حياتنا، تستمر إما بدافع المصلحة المادية أو الضرورات الاجتماعية أو لعدم جرح مشاعر الأطفال وتحميلهم تداعيات الانفصال. لذلك يصبح الحب هنا تلك الكيمياء المفقودة التي تفتح الباب أمام توترات دائمة وخيانات متتالية وممارسات لا أخلاقية ناجمة عن ردات فعل عشوائية.
لست طبيباً نفسانياً ولا أرغب بالقيام بتحليل شخصيات وتشخيص حالات طالما أنها ليست من عملي، لكن من خلال نظرة موضوعية للأمور يكتشف المراقب حجم الخلل الحاصل في المجتمع نتيجة غياب الحب أو المتاجرة بهذه القيمة العظيمة لتحقيق رغبات آنية ومصالح مادية أو معنوية ضيقة.
قد يجد المتابع علاقات عاطفية غير مبنية على حب، بل هي مسيئة للانسان بحد ذاته كونها تتناول الجانب الغرائزي من شخصيته، فنجد من يتزوج امرأة فقط من أجل أن يتزوج ويُنجب أطفالاً، أو حتى لا يعيّره المجتمع بالعزوبية. ونجد من يتزوج لمصلحة مادية أو إرضاءً لنظام اجتماعي أو طقس ديني معين، بقطع النظر عن تواجد الكيمياء أو عدمه في هكذا علاقات.
الأخطر من ذلك شرعنة هذه العلاقات باسم الدين أو المجتمع، مع أن الحب والكيمياء بين شخصين هي الشرعية الوحيدة التي تغني عن ورقة الشيخ أو الكنيسة أو البلدية في النظام المدني.
فمن المفارقات العجيبة أن تتزوج الفتاة من شخص لا ترغب حتى برؤيته، بسبب تهديد أهلها لها بالقتل أو العزلة، فيما هي تعيش مع حبيبها الذي لا يرغب الأهل بمصاهرته، أجمل أوقاتها، فهل هذه العلاقة “المسروقة” القائمة على حب صادق، أفضل وأكثر شرعية أم علاقة الجبر والترويع؟.
مفارقات عجيبة يحملها الينا الدين تارة والأمثال الاجتماعية تارة أخرى، وكل هدفها مصادرة ما تبقّى لدينا من حب ومودة. مثل منع الزواج المختلط في بعض المجتمعات، والإصرار على إيجاد عريس للبنت من نفس الطائفة والجماعة وقد يصرّ الأهل على انتقاء شخص من نفس التيار السياسي الذي يلتزمونه.
نعم قد يكون الانسجام في الأفكار شرطاً ضرورياً لاستقرار الأسرة وعدم تشتت الأطفال بين مذهبين أو طائفتين، لكن هذا قد يكون في حالة الشخص الملتزم بدين معين ولا امكانية ان يحيد عن تعاليمه. لكن الشخص المنفتح المتحرر من ضغط الطقوس الدينية وتهويمات الايديولوجيات في حال وجد نصفه الآخر وحلّت كيمياء الغرام بينهما فهنا يصبح الاستقرار أفضل والبيئة المناسبة لتربية أطفال وفق ذهنية عقلانية تتيح لهم الاختيار بدل الخضوع والجبر.
ثمة علاقات عاطفية غرائزية بحت قد تستخدم الحب كوسيلة للوصول الى المُشتهى، وبعض هذه العلاقات مُشرعن دينياً، مع أنه لا يؤمّن الاستقرار والود المطلوبين للارتباط. من هذه العلاقات زواج المتعة الذي يحمل اسمه دلالات مقززة تشير الى أن الشخص الذي يقوم بهذا النوع من العلاقات لا يختلف عن فتيات الهوى اللواتي يتقاضين أجوراً لقاء وقت معين من المتعة الجسدية. في السياق نفسه يدخل زواج المسيار عند السنّة الذي لا يشكل للرجل سوى محطة “يغيّر من خلالها طعمة ضرسه”. فما بالك بالزواجات الأخرى مثل العرفي و”الزواج فريند” والزواج بنية الطلاق المنتشرة بين أغنياء المسلمين، وهذا الزواج الأخير ليس الا حيلة شرعية تشبه الزواج المؤقت.
اللافت انه بعد وصول الاسلاميين الى مراكز الحكم في تونس وليبيا ومصر يبدو أن هناك من عاد ليشجع الزواج التعددي، ومنهم من ذهب أبعد من ذلك بطرح فكرة العودة الى نظام الجواري التي كانت ملكاً للسلاطين والخلفاء “ما ملكت أيمانهم”.
حقاً إن رائحة الشبق الجنسي تفوح من الدين، والتفكير بالغريزة على حساب الحب لا يعطي لأي علاقة شرعية رغم أنف رجال الدين والمحاكم الشرعية التي بات الزواج أحد أهم مصادر إثراء مشايخها وموظفيها.
وبالنتيجة نجد أن الطبقية هي التي تتحكم بنوعية العلاقات فأغنياء المسلمين هم من يحق لهم بالزواج المتعدد ومن يحق لهم شراء البنات الأطفال من البلدان الفقيرة والزواج منهن، وهم من يحق لهم العقد على فتاة لفترة معينة يتم بعدها تطليقها وفق الفقه السني أو يهبها المدة كما هو حاصل في الفقه الجعفري.
نعم الحب أقوى من السياسة لكن الحب لا يمكن أن يكون سلعة للشراء أو للايجار، هنا ينغمس الحب في ألاعيب السياسة ويفقد قيمته الانسانية النبيلة. بالنتيجة الفتاة في مجتمعاتنا هي أول من يدفع ثمن هذه الأنانية التي تتحكم بغرائز الرجال. لعل ما نحتاجه بالفعل قليلاً من الحب.