نازحون في دمشق: خرجنا من حمص بنصيحة “الجيش الحر”
اختاروا العاصمة بسبب الهدوء النسبي الذي تخيلوه، جاؤوا ليطلبوا الأمان لأبنائهم الذين عاشوا أياما عصيبة في حمص، وتوقفت دراستهم بشكل كامل، ورغم الحملات الأمنية التي يتعرض لها الحي الدمشقي الذي نزحوا إليه، إلا أنهم يجدون في البيت الذي يجمعهم بأقران لهم نزحوا من حمص، ملاذا آنيا من القذائف والصواريخ التي تنهال على أحيائهم، وقليلا ما يشتكون من شح المساعدات ومن المنازل التي يسكنونها، مشغولين بمن لم يتمكن من المغادرة، ومن مذابح أخرى تنتظر تلك الأحياء الملتهبة. ويبدون واثقين من انتصار ثورتهم وهي تختتم عامها الأول، ومن أن ما يحدث لهم اليوم، هو ثمن باهظ لرفضهم الذل وحقهم بالحرية والكرامة.
أبو حمزة، من كرم الزيتون، نزح بداية لحي الشماس ثم إلى دمشق. والحي من أوائل أحياء مدينة حمص التي لبت “نداء الفزعة” الذي أطلقته محافظة درعا، مهد الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد، ثم ما لبثت دبابات الجيش النظامي أن اقتحمت الحي، وأقيمت الحواجز الأمنية والعسكرية عند مداخله. ويفيد النازحون أن تلك القوات طالما كانت محابية للأحياء الموالية، والمجاورة لأحياء منتفضة. أبو حمزة أشار إلى إطلاق الجيش والأمن قذائف مسمارية ومتفجرة باتجاه كرم الزيتون، وهو ما دفعه وغيره للنزوح من الحي، فاصطحب عائلته المكونة من زوجة وأربعة أطفال، ووصل إلى دمشق من الشماس، التي شاهد فيها حجم القذائف التي أمطرت حي بابا عمرو قبيل اجتياحه وانسحاب “الجيش الحر” منه تكتيكيا. ويؤكد أنه غادر الحي عملا بنصيحة “الجيش الحر” الذي كان يحمي المدنيين من هجوم الأمن والشبيحة، ويحمي مظاهراتهم التي أكد أبو حمزة بسعادة خافتة مشاركته فيها، لكن “الجيش الحر” لم يعد قادرا على تأمين تلك الحماية بسبب القوة النارية المتفوقة التي يمتلكها جيش النظام، ويلفت بأن “الجيش الحر” حذر الأهالي من البقاء في الحي خشية من أعمال انتقامية قد تلجأ إليها قوات النظام. ويبدي النازحون تعاطفا واضحا تجاه مقاتلي الجيش الحر، ويذكرون أنهم كانوا يقدمون يد العون ويدخلون المؤن وغاز التدفئة للسكان المحاصرين، ويمدونهم بالشعور بالأمان. فأبو حمزة قرر مغادرة الحي بالتزامن مع انسحاب الجيش الحر من الحي. ومع تصاعد الجرائم والانتهاكات التي تمارسها “كتائب الأسد” (أي قوات الأمن والجيش والشبيحة).
أبو عمر نازح من حي عشيرة، يذكر أن دخول الجيش النظامي إلى الحي كان عمليا لفرض “حظر تجول” على الأهالي، الذين لم يكن بمقدورهم مغادرة بيوتهم بعد الساعة الرابعة عصرا، ثم ما لبثوا أن منعوا من الحركة طيلة أيام، بسبب وجود القناصة والخطف والقتل، ونتج عن ذلك تردي للأوضاع الاقتصادية، ونقص كبير في المواد الغذائية والحاجيات اليومية، لافتا إلى أن عددا كبيرا من أبناء الحي يعملون بالمياومة، أي يوما بيوم، وتعطل أعمالهم يوما يسبب نكسة اقتصادية. فكل من يخرج من منزله يغدو “مشروع شهيد”، على حد وصف أبو عمر، كما حدث مع أخيه، الذي كان يعمل ممرضا. خرج لإسعاف إحدى الجريحات وقتل برصاص الأمن السوري. ويضيف أنه ما عاد بمقدور الناس الوثوق بوسائط النقل العمومية بسبب استخدامها من قبل قوات الأمن والشبيحة في مداهمة الأحياء وخطف أو قتل أي من أبناء الأحياء الثائرة، والتنكيل بالمدنيين الذين يحملون بطاقات شخصية مدون فيها اسم الحي الثائر الذي يتحدرون منه، كلما مروا بالحواجز الأمنية والعسكرية. ويؤكد أن بعض الأهالي حملوا السلاح للدفاع عن بيوتهم وعائلاتهم، خاصة بعد ارتفاع وتيرة حوادث القتل والاختطاف والاغتصاب، مؤكدا احراق نحو ألف منزل في حي عشيرة، نتج عنه نزوح نحو عشرة آلاف فرد من الحي، الذي مازال المئات يسكنونه، خشية على أملاكهم وأملاك عائلاتهم. أبو عمر يؤكد أن تلك الأوضاع تهون أمام القتل والتنكيل بالجثث واغتصاب النساء والفتيات. ولا يخف النازحون الذين التقيناهم أسفهم للحال التي وصلت إليها مدينتهم، بعد أن قطعت كل أشكال العلاقة الاقتصادية والاجتماعية مع الأحياء الموالية للنظام، متهمين الأخير بالسعي الدؤوب طيلة عام كامل لإيصال الأمور بين أبناء المدينة إلى ما وصلت إليه، ويستدلون بقطع الطرق والحواجز والفصل الأمني والعسكري بين مكونات مدينتهم الاجتماعية، ويتذمرون من انحياز قوات الأمن والجيش النظامي للأحياء الموالية التي سادتها أجواء الخطف والتشبيح والتهديد وحرق سيارات الأجرة، وصولا إلى القتل على الهوية، فوجدت الأعمال انتقامية وأجواء التحريض الغاضب صدى في ردود فعل لجأ إليها أحيانا أبناء الأحياء الثائرة. وهم إن لم يسموا الطائفة العلوية بالاسم، ويشيرون إليهم بالموالين، إلا أن توصيفهم لأبناء الأحياء الثائرة، ذات الغالبية السنية، بـ”جماعتنا” يدلل بشكل موارب على بروز مشاعر طائفية لدى أبناء المدينة الواحدة.
إلا أنهم يتمنون أن لا يكون يوم سلام سوريا بعيدا، وفي المقدمة مدينتهم حمص، التي دفعت الثمن الأكبر في معركة اسقاط النظام، وبأن يكون العدل والمساواة هما ملامح سوريا المنتصرة، التي تجمع كل أبنائها، وأن يتوقف القتل وارتكاب المجازر من كونه حدثا يوميا طبع يوميات بلدهم على مدار عام بأكمله.