الربيع العربي… انتهى البيان بدّل!
وسيم نصر
كانت شرارة الربيع العربي الأولى كحلم يعصف بالعالم العربي الذي كان يهيم على وجهه ويُمعن في الانحطاط والتراجع على كل المستويات العلمية السياسية والاجتماعية. النار التي أكلت جسم محمد بوعزيزي في تونس ألهبت الوجدان العربي وأفاقته من غيبوبته فإنتفضت الشعوب العربية على حكامها رافضةً بطشهم وكذبهم وحروبهم البائدة والبائسة والفارغة كفراغ شعاراتهم وعقولهم المجرمة والدنسة. كان الأمل كبيراً وحلم التغيير في متناول اليد، إنما حقيقة التجاذبات في العالم العربي كانت أقوى من دوافع الشعوب الأولى، أقول الأولى لأن نفس الشعوب التي ثارت ونجحت في قلب الأنظمة القائمة، وإن شكلياً، عادت واختارت الإسلاميين ووضعتهم في سدة الحكم، عِلماً أن هؤلإ لم يكونوا من أكثر المتحمسين للثورة إن كان في تونس، مصر أو ليبيا.
فها نحن نعود أدراجنا إلى واقع مذري حيث يلتهي حكام البلاد الجدد في التجاذبات السياسية والصفقات الإنتخابية ناسيين مآسي شعوبهم المزمنة والتي لم ولن تتغير أو تتحسن في القريب العاجل. لأن الثورات وإن نجحت في هذه البلاد فإنها كما يقال في العامية لا تضع رغيف الخبز على المائدة ولا تؤمن عملاً لطالبيه من الشباب العربي ولا تجعل الصحافة أكثر حريةً ولا السياسيين أكثر إهتماماً بمتطلبات الشعوب، ذلك أقله في القريب المنظور.
ثورة الليبيين التي جندت العالم، ها هي تتوه في متاهات النزاعات القبلية والمعادلات السياسية. ها هي القبائل تتقاتل على تقاسم السلطة وعلى تقاسم موارد الدولة الجديدة بعد سنين القمع والفساد في عهد القذافي. لسوء حظ السوريين فإن الثورة الليبية قطعت عليهم طريق نجاح ثورتهم، فعندما إنتفض الشعب السوري على بشار الأسد كان العالم منهمكاً بدعم ثوار ليبيا ولم يكن بمقدور الدول الغربية، المنهمكة أصلاً بالملفين العراقي والأفغاني، التدخل في سوريا التي لها خصوصية و حساسية استراتيجية فريدة. بل أكثر من ذلك فليس خافياً على أحد أن طريقة التعامل مع الملف الليبي و مع قرار مجلس الأمن ١٩٧٣ هو الذي يقف حداً أمام مباركة صينية وروسية بخصوص قرار مماثل لوضع حد لبطش الأسد في سوريا. لكنه لا يجب أن ننسى أن ذلك يناسب الدول الغربية التي تتلطى وراء هذا الفيتو الروسي الصيني كي لا تتدخل عسكرياً في سوريا وإن كان هذا التدخل غير واردٍ من أصله بسبب الحسابات الإقليمية لهذه الدول التي وإن ناشدت بإحترام حقوق الإنسان واستعملت ذلك كسبب مباشر لشن حروبـ فهي في بادئ وآخر الأمر لا تتدخل ولا تستعمل مواردها في هذه الأوضاع العصيبة إلا لخدمة مصالحها. وذلك ليس بإدانة، لكنه تذكير لكل المتحمسين بأنه لا يجب التعويل على تدخل خارجي على حساب هذه المصالح.
مما يُضر أيضاً الثورة السورية هو الوضع الحالي في ليبيا إذ ترى الدول الغربية أنه بعد ذهاب القذافي سقطت حلقة مهمة في منطقة الساحل التي باتت مشرعة أمام القاصي والداني، وبذلك إهتز التوازن الإستراتيجي للمنطقة كلها، وأحداث مالي ليست إلا من أولى مفاعيل سقوط نظام القذافي بسبب عودة العديد من المقاتلين الطوارق إلى بلادهم محيين بذلك العمل المسلح ومعيدين التوتر إلى بلاد الساحل. وإنقلاب مالي الأخير يؤكد أن مفاعيل ذلك قد تكون لها تداعيات كبيرة حتى على المستوى الإفريقي ككل.
إذاً ليبيا والوضع الناتج عن سقوط القذافي هما بمثابة كابوس لثوار سوريا، الذين يجدون أنفسهم عند مفترق تحول الربيع العربي ليس إلى شتاء إسلامي، كما يحلو للبعض تسميته بل إلى مجموعة نزاعات كما شهد الشرق الأوسط من قبل إن كان في الحرب اللبنانية أو في الحرب العراقية بعده.
فها هو الحلم يتلاشى في بحر الدماء السورية، كما تلاشى قبله حُلم لبنان جديد بعد أن خرج الجيش السوري عام ٢٠٠٥ وعاد اللبنانيون إلى التناحر و التقاتل على جثة هذا الوطن الصغير، حيث تجتمع كل التناقضات وكل النزاعات الدولية والعربية. بسبب نفس التناحرات والنزاعات، سوريا تغرق يوماً بعد يوم في مستنقع الحرب الأهلية. كان من المؤكد أن نظام الأسد سيكون خاسراً لو لم ينجر الثوار إلى النزاع العسكري، أما الآن فبات الأسد على قاب قوسين من سحق الثورة عسكرياً وإن كان سيفاوض فسيفاوض من موقع الأقوى وإن قبل مبادرة كوفي أنان فإن ذلك ليس بإنجاز لا لأنان ولا لغيره، لأن الأسد لطالما قال أنه ما أن يضع حداً للمقاومة المسلحة سيفاوض.
المراهنة على عسكرة الثورة كان رهاناً خاطئاً وإن القتل والتنكيل لا يحتملان فإنه مع دخول عدة لاعبين على الساحة السورية باتت الحرب القائمة لعبة أكبر من ثوار سوريا، وإن كانوا محقين في حمل السلاح فهذا هو ما قاد إلى فقدانهم المبادرة في وجه الآلة العسكرية الأسدية وأيضاً إلى فقدانهم المبادرة سياسياً حيث تداخلت مصالح الدول على مصلحة الشعب السوري في مؤيديه ومعارضيه.
حتى الدول العربية الداعمة للثورات لها أجنداتها الخاصة ومصالحها الأولوية وصراعاتها في ما بينها، وهي نفسها ليست بأمثلة في الديموقراطية وحقوق الإنسان لا قبل أو حتى بعد الثورات… هذه هي حقيقة الواقع العربي وحقيقة الحكام العرب الذين إن تغيرت ألوانهم ظلت سياساتهم متشابهة وإهتماماتهم سلطوية شخصية عائلية أو قبلية وفئوية في أفضل الأحوال… …