المَيْتُ الذي أبى أن يُدفَنَ (قصة ١)
بقلم عصام حمد
لم يَجْرِ له في خاطرٍ أنّه هو نفسُه قد مات. وأنَّ عليه- كما جَرَتِ العادةُ بين الناس- ألاّ يَفْتحَ عينَيه بعد تلك السّقْطة المُميتةِ، ولا يرفعَ رأسَه، ولا ينتصبَ واقفاً، ثم يواصلَ سيرَه كأنّه ما زال معدوداً من الأحياءِ!
لم يَشْهَدْ أحدٌ سقطتَه.
كان يعمل في مشروع بناءٍ في ضاحية المدينةِ. انصرف العمال عند انتهاءِ الدوام. أما هو فأَصرَّ على إتمام العمل الموكول إليه قبل انصرافه.
وكان يصعد السلّمَ حاملاً حَجَراً ثقيلاً يريد تثبيتَه في أعلى الجدار الذي يَبْنيهِ، عندما فقد توازنَه بغتةً لتخلخل السلم العالي- ولم يكن من الزملاءِ من يسنده – فسقط إلى الأرض.
ولكنْ لم يشهدْ موتَه أحد.
لذلك فتح عينيه، ورفع رأسَه، ثم انتصب واقفاً، ومضى في طريقه.
بلغ شقّتَه التي كان استأجرَها منذ أعوامٍ لدى هبوطِه المدينة من قريتهِ سعياً وراءَ الرزق.
فاغتسلَ من تعب النهار، ثم راح يُعِدُّ طعامَه.
عَجِبَ لإعراض نفسِه عن الأكل، بعد يومِ عملٍ طويل. ثم قام عن المائدة من غير أنْ يتناول لقمةً. ومضى فتمدَّد على فراشهِ في قيلولتهِ اليوميّة.
ولكنّه لم يستطعِ النومَ. وبدا كأنَّ يقظةً غريبةً لم يعهدْها من قبلُ قد فتحتْ أجفانه. وظلَّتْ عيناه مفتوحتينِ تُحملِقانِ في سقف الغرفة. ولم يخطُرْ في باله خاطر.
وعندما انخفض النورُ بالحجرةِ مؤذناً بالمغيبِ نهض الشابُّ من فراشهِ. فمضى إلى خزانة ملابسهِ. وانتقى آنقَها. فارتداها. ومشَّط شعره وهو ينظُر إلى نفسه بالمرآة. ثم غادر شقّتَه- كما كان يفعل كلَّ مساءٍ- لزيارة بيت عمِّه.
فتحتْ له خطيبتُه البابَ.
استقبلتْه الفتاة الجميلة بشوقِ الموعودةِ بحياةٍ جديدة، وهي تقول في عتاب:
– تأخّرتَ عن موعدك على غير عادة.
استغربتْ جمودَه ونِظرةَ عينيه الغائبة، فهتفتْ به:
– ما بك واقفاً هكذا؟ ادْخُلْ!
وإذِ استبطأتْه. أخذتْ بيدهِ فشدّتْه إلى الداخل وهي تتمتم في عجَب:
– أنتَ غريبٌ اليومَ!
ثم أحَسَّتْ برودةً في يده، فسألتْه:
– ما ليدك باردة؟
ولكنه لم يُجِبْ.
قادتْه إلى غرفة المعيشة حيث استقبله عمُّه بترحابٍ هاتفاً كالعهد به:
– أهلاً بالعريس! كيف الصحة وكيف الشغل؟
فسلَّم الشابُّ على عمِّه وعلى امرأة عمِّه وقعد.
وجاءت الفتاةُ بالقهوة وجلستْ إلى جانب خطيبها. ودار الحديثُ كالعادة حولَ المستقبلِ والزواجِ الموعود.
وقالتِ امرأةُ عمِّه مُشجِّعةً:
– شُدَّ هِمَّتَك حتى نفرح بكما ونرى لكما ولداً.
ولدى ذهابهِ همستْ له خطيبتُه عند البابِ في شيءٍ من التأنيب:
– لم يُعجبْني جمودُك الليلةَ. لم تكن كما عهدتُك. أُحِبُّ أن تأتيني أكثرَ حماساً!
وفي صباح اليوم التالي وصل إلى الورشة متأخِّراً بعضَ الوقتِ. وهذا ما لم يكن يحدثُ من قبل. ولاحظ الزملاءُ في حركته شيئاً من البُطْءِ والتصلُّب.
لم يستطعْ وضعَ حجرٍ على حجر. ولاقى في ذلك تهكُّماً من الزملاء وانتقاداً من ربِّ العمل الذي قال له مُستغرِباً:
– لطالما كنتَ مثالاً للعامل النشيط. فماذا جرى لك؟ لعلَّك في حاجةٍ إلى الراحة. اذهب الآن إلى بيتك. فاسترحْ. ثم عُدْ في الغد.
فذهب الشابُّ من غير أن يقول شيئاً. وعلَّق بعضُ العمال ساخراً:
– لم يَعُدْ هذا الشابُّ صالحاً للعمل في البناء!
تتالتِ الأيامُ وسمعةُ الشابِّ من سيءٍ إلى أسوأ، في الحيّ الذي يسكُن فيه، وفي الورشة، وفي بيت خطيبته. وتجنَّبه الناسُ لكراهةِ رائحتِه وبشاعة صورتِه.
أما هو فسار بين الناس كالغائب عنهم، غائرَ العينينِ، مهزولَ القوام، متقلِّصَ الجلدِ، تنبعثُ من جسدهِ رائحةٌ نتِنة.
وطُرد من عملهِ بدعوى انعدام الصلاحية. وأنذره مالكُ الشقَّة برميه خارجاً لتأخُّره في دفْع الإيجار. وأغلق والدُ خطيبتِه البابَ في وجهه بحُجَّة أنه لم يَعُد قادراً على صُنْعِ مستقبلٍ لابنته. وشيَّعتْه الفتاةُ من النافذةِ بنظرةٍ دامعة.
ثم توالتْ شكاوى المواطنين على البلديَّة في شأنِ الشابِّ. فطالبَ قومٌ بإلزامه بالنظافة وشيءٍ من التجميل. وآخرون طالبوا بحبْسِه. والبعض طلب له النَّفيَ من البلدة لإراحةِ الناس من منظرهِ ورائحته..
فما كان من رئيس البلدية إلا أن دعا الأعضاء إلى اجتماعٍ طارئ. انعقد المجلس البلديُّ على عجَل. توافقت الآراءُ في الشابِّ مُردِّدةً أصداءَ ما يقوله عنه الناسُ في الشارع.
إذ ذاك قال رئيس البلدية بجدِّية:
_ وَرَدتْنا مزاعمُ كثيرةٌ تُؤكِّد أنه مَيْتٌ، وليس مَن يدفنُه!
فأَيَّد أحدُ الأعضاءِ هذا الرأيَ قائلاً:
– نعم! أقول إنه مَيْت. فإني رأيتُه مرةً جامداً كالأموات!
وقال آخرُ بصدق:
ـ الحقُّ أنِّي لم أَلْقَهُ قط. ولكنَّ زوجتي تقول إنها تقشعِرُّ من نِظرة عينيه الباردة!
فأعْربَ الرئيس عن قلقه قائلاً:
– المُهِمُّ أنَّ أهل البلدة يحمِّلون البلديَّة واجبَ دفنهِ، ويتَّهموننا بالتقصير في ذلك!
فردَّ عليه عضوٌ قائلاً في اندفاع:
– أرى أن نتَّخذ قراراً بدفنه حالاً!
فوافقه بقيَّة الأعضاء بحماسةٍ على ما رأى إلا واحداً اعترض قائلاً:
– لا يجوز دفنُه بغير شهادة وفاةٍ من طبيبٍ شرعيّ!
فطمْأنه الرئيسُ قائلاً:
– طبعاً طبعاً.. أنت تعرف حرصي على تطبيق القانون!
وباكراً في الصباح، بينما كان الشابُّ يتأهَّبُ لمغادرة شقتهِ، اقتحم رجالُ الشرطة عليه البابَ، وانقضُّوا عليه فطرحوه أرضاً حتى أنه لم يستطع حراكاً.
ودخل رجلٌ يلبس برنساً أبيضَ. فانحنى فوق الشابِّ الممدَّدِ، وراح يُحدِّق في وجهه زامَّاً شفتَيه. ثم استقام وهو يهزُّ رأسَه في أسًى مُتبادِلاً مع الحاضرين نظرةً حزينة. وإذا به يستخرج من جيبِه ورقةً بيضاءَ ويكتب فيها شهادة وفاة!
ولم يتأخَّر الحانوتيُّ. فقد جاء بلُفافةٍ كبيرةٍ من قماش أبيض، تعكِس عيناه بريقَ الجشع، يتبعُه على الأثر رجلانِ يحمِلانِ نعشاً.
مضى الحانوتيُّ يُكَفِّن الشابَّ بحزمٍ لافّاً جثَّتَه بإحكامٍ، غيرَ مُبالٍ برفضهِ واعتراضه.
ثم حمله الرجالُ فوضعوه في النعش وسَدُّوا عليه غطاءه. وتعاونوا فرفعوا النعشَ على الأكتاف، ونزلوا به إلى الطريق نحو المقبرة.
انضمَّ إليهم كثيرٌ من الناس بتلقائيَّة. وجذبتِ الأوراقُ التي نُشِرتْ بنعيه في الليلة الماضية ناساً كثيرين من البلدات المجاورة حتى سدَّ المشيِّعون الطريق.
بلغتِ الجنازةُ المقبرةَ. فوُضِعَ النعشُ على الأرض بجانب الضريح الذي كان حُفِر على عجَل. وقبضتِ الأيدي على الشابِّ ملفُوفاً في كفنه. فأُنزِل في الحفرة. ثم أطبقوا بلاطةً سميكةً على فُتحتها وأهالوا عليها الترابَ الكثير. ثم راح المُشيِّعون يتبادلون العزاء:
– لكم من بعده طولُ البقاء.
– البقاءُ لكم..
ولدى انصرافهم همسَ أحدُهم لحارس المقبرة مازحاً:
– لا تسمحْ لأيٍّ من الأمواتِ باللحاق بنا!
حسن فعلتم ايها القيمون على هذا الموقع الجميل باضافة زاوية القصة، فالقاص عصام حمد جدير بأن يكون كاتب هذه الزاوية باستمرار لجرأته في معالجة القضايا الاجتماعية باسلوب قصصي شيق لا يخلو من الاثارة ولا يبتعد عن الرؤية الهادفة.
تاريخ نشر التعليق: 2012/04/03اُكتب تعليقك (Your comment):