أسرى يتذكرون: فضائح أبو غريب
في ظل الثورات العربية القائمة، نستذكر اليوم تجارب من قاوموا الإحتلال وعانوا مرارة الإعتقال من معتقل “انصار” في جنوب لبنان الذي اعتقل فيه العدوالإسرائيلي كل من كان يقف مواجهاً من كافة الطوائف والأحزاب، مروراً بالمعتقلات السورية (تدمر، المزّة) والتي فاقت إجرام العدو الصهيوني في التعذيب الجسدي والنفسي وصولاً إلى سجون الإحتلال الأميركي في العراق (أبوغريب)، والتي ذاع صيتها نظراً لما ورد عنها. فأصبح القاصي والداني يعرف الوحشية الاميركية في معاملة الاسرى لتظهر إلى العلن الصورة الحقيقية لـ”الديمقراطية الأميركية”. اختلف السجّان لكن المعاملة واحدة، كل الإتفاقات الدولية وعلى رأسها معاهدة جنيف لمعاملة الأسرى ضُربت بعرض الحائط، سجن وتعذيب ومعاناة برزت على أجساد المُعتقلين ثمناً لمقاومتهم.
سجن أبو غريب هو السجن الأكثر شهرة في القرن الواحد والعشرين. سرق الأضواء عن السجون العربية الأخرى المنتشرة من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر بفعل الفضائح عن الممارسات المهينة التي كانت تجري في أقبيته. سجن أبو غريب هو عبارة عن مبنى ضخم تم بناؤه غرب العاصمة العراقية بغداد، في فترة الستينات وكان يُستخدم أيام صدام حسين للقتل والتعذيب الوحشي. لكن شهرته أتت لاحقاً بعد الممارسات البشعة التي قام بها الإحتلال الأميركي بحق رجال ونساء العراق في أقبية سجن أبو غريب الذي تغيّر اسمه ليصبح (مركز بغداد التأديبي).
لقد تم الكشـف عن فضـائح التعذيب وما يتم ارتكابه من أعمال تمتهن كرامة الإنسان في سجون الإحتلال الأميركي في العراق من أعمال تعذيب واعتداءات جنسية وممارسـات مهينة للمحتجزين والسـجناء في أبو غريب، على يد الأميركيين بفعل الصدفة البحتة، عندما قام أحد الجنود الأميركيين باستعراض بعض الصور لما يفعلونه داخل أسوار السجن أمام زملائه فما كان من أحدهم (جوزيف داربي) إلاّ أن قام بالإبلاغ عن أفعال وصفها بأنها أفعال حاطّة بالكرامة الإنسانية وأعمال تعذيب تُمارس بحق السجناء العراقيين. ويقال إن الآلاف من العراقيين والعرب اعتقلوا بشـكل عشـوائي ولم توجه لهم أية اتهامات رغم سـجنهم لأشهر طويلة، كما أن سـجن أبو غريب ليس السـجن الوحيد في العراق، بل هناك سـجون ومعتقلات منتشـرة في البلاد وكانت تحت إمرة قوات الاحتلال غير الخاضعة لأية قوانين عراقية، من أم قصر في جنوب العراق ولغاية الموصل في الشـمال، ولا يُعرف شيء عن مصير هؤلاء المعتقلين.
مؤخراً كان لـ”أخباربووم” لقاء مع فراس ياسين وهو لبناني كان يعمل مدير فرعي لشركة مقاولات أميركية في مطار بغداد الدولي وتم اعتقاله من 3 كانون الثاني/ يناير 2008 ولغاية 11 آذار/ مارس 2010. فراس حسن كان أحد ضحايا الإعتقال الأميركي وشاهداً على بعض ما كان يحدث من ممارسات بشعة التي قام بها الإحتلال في أقبية السجون العراقية:
“ذهبتُ الى العراق للعمل في القاعدة الاميركية في مطار بغداد الدولي، وكنتُ حينها اعمل على تجديد البطاقة وهذه البطاقة تعرّف عن حاملها وتخوّله الدخول الى اماكن معينة بحسب لونها. حينها اعتُقلت بتهمة قتل 10 عراقيين عبر الهاتف، وهي تهمة ما زلت حتى اليوم أجهل كيفيتها وما معناها والمقصود منها، لكن تبيّن لي لاحقاً أنّ هذه التهمة الزائفة والباطلة ليست أكثر من تقرير ورد بحقّي من أحد العاملين معي في الشركة بهدف إزاحتي وشغر منصبي.
“خلال فترة سجني والتي قاربت الستة وعشرين شهراً تعدّدت اماكن اعتقالي وتنقّلت بين عدد من المعتقلات منها ما عرفته ومنها ما كان مجهولاً. ففي الفترة الاولى وضعوني في سجن المطار لمدة 17 يوماً نُقلت بعدها إلى سجن صغير قرب المطار حيث كان معي في الاعتقال لبنانيون وعرب واجانب. بعد فترة تحرّكَ الوتر الطائفي في المعتقل وبدأت المشاكل والاضطرابات، لذا مُنع الاختلاط وفصلونا كل جماعة على حِدى. بعدها تم نقلي إلى سجن أبو غريب حيث بقيت لمدة 4 أشهر، ثم الى سجن بوكا في البصرة والذي تم اغلاقه مؤخراً وبقيت فيه لمدة سنة.
“لحسن حظي ربّما أن في الفترة التي تم اعتقالي فيها كانت دخلت لجنة حقوق الانسان والصليب الاحمر الى السجون ومنعا التعذيب بكافة اشكاله قبل دخولي الى المعتقل، لكن بالرغم من ذلك تعرّضت لبعض الإهانات والتعذيب والذي كان نفسياً أكثر منه جسدياً، حيث كنت أجبر على سماع أصوات اغتصاب وضرب وصراخ وذلك بهدف التخويف وإيصال المعتقل للإنهيار النفسي للإقرار والموافقة على أي شيء. كنت ممنوعاً من مقابلة احد ولم يُسمَح لي الاتصال بأهلي إلا بعد 9 اشهر على توقيفي عندما قام الصليب الأحمر بزيارتي في سجن أبو غريب. لكن عند نقلي إلى سجن بوكا في البصرة انقطع التواصل مع الصليب الأحمر للأسف إذ أنّهم كانوا قد أنهوا مهامهم هناك، فتعذّر عليّ الإلتقاء بهم وكانت هذه الفترة أصعب من الفترة الأولى، إذ كان السجّانون ينتظرون نهاية زيارة الصليب الأحمر ليأخذوا راحتهم بعدها في الممارسات المتوحّشة والتعذيب الذي كانوا يقومون به بحق السجناء.
“أنا كما ذكرت سابقاً لم أتعرّض مثل غيري من المعتقلين للتعذيب والممارسات الوحشية التي كانت تُمارس بعض الأحيان ضد المعتقلين العراقيين وخصوصاً المتّهمين بالإنتماء للمقاومة العراقية، ولكن طوال فترة اعتقالي كانت صورة الممارسات الشهيرة التي فُضحت في سجن أبو غريب تسكن عقلي ولم تغادرني وكنت بعض الأحيان عندما أسمع باب الزنزانة يُفتح أتخيّل للحظة أنّ هناك كلب بانتظار الهجوم عليّ.
“اثناء مُكوُثي في المعتقل شهدت الكثير من حالات الوفيات بسبب قلة التنظيم داخل المعتقل وسوء المعاملة والتعذيب، لكن أكثر ما لفت انتباهي العديد من حالات الإعتقال غير المنطقية أو العقلانية التي كان من بينها حالة رجل أعمى مُعتقل بتهمة أنّه أحد قنّاصي الفلوجة، فكيف له أن يكون قناصا؟! وآخر كانت يداه وقدماه مبتورة وادّعى الاميركيون انه مهندس عبوات متفجرة. بعد التحدث اليه تبيّن لي انّه فلاح وإصابته كانت نتيجة للقصف الذي قامت به طائرة هليكوبتر أميركية من نوع أباتشي أثناء قيامه بريّ الأرض ليلاً، فأصيب في القصف ونُقل إلى المستشفى وبعدها تم نقله إلى السجن بتهمة القيام بتحضير وإعداد المتفجرات وأنّ هذه الإصابة التي وقعت به كانت نتيجة انفجار أحد الألغام التي يقوم بإعدادها. ولكن أبرز وأبشع ما سمعتُ به اثناء فترة اعتقالي كان قصة والد وابنه تم اعتقلهما سوياً وقام الجنود بتعصيب عيونهم واجبروهما على ممارسة الجنس معاً وبعد الانتهاء قاموا بفك الغطاء عن عيونهم.
“لم يكن هناك أي وجود فعلي للأمم المتحدة وإن وجِدَت في بعض المناطق بعض الأحيان فليس لها صلاحية في التدخّل بما تقوم به سلطات الإحتلال الأميركي ولا تستطيع اتخاذ أي قرار ضمن هذا الإطار. فقد كانت الحجّة دائماً بأن الولايات المتحدة الأميركية دخلت العراق ضمن قانون الطوارىء، وهذا القانون يسمح لهم بفعل ما يريدون وكان هناك الكثير من حالات الاعتقال التعسفي. فقد اشتهرت التقارير في العراق والتي يتراوح ثمنها بين 50$ و100$ وكل من يرد اسمه في التقرير يختفي في مكان مجهول ولا يُعرف عنه أي شيء، مع العلم بأنّ نسبة كبيرة من تلك التقارير لا تمت للحقيقة بصلة وتكون مبنية على مشاكل فردية او عائلية وبعض الأحيان تكون فقط بهدف الكسب المادّي، ونتيجة لهذا الأمر كانت السجون تغصّ بالمعتقلين نساء ورجال من مختلف الجنسيات (العراق، مصر، فلسطين، سوريا، لبنان) وكان الكثير منهم معتقلاً بلا محاكمة.
“أثناء فترة اعتقالي وبعد التواصل الذي تم مع هيئة الصليب الأحمر زارني مندوب السفارة اللبنانية والقائم بالأعمال (غسان حدّاد) مرتين في السجن، حاول جهده مساعدتي ولكن الأمر كان خارج صلاحياته إذ أن سلطات الإحتلال الأميركي كانت ترفض السماح له بالتواصل معي بشكل طبيعي. قام السيد غسان بالتواصل مع المعنيين في الشركة التي كنت أعمل لديها وقام بإبلاغ الحكومة اللبنانية بتفاصيل الملف فأرسلت الحكومة معلومات عنّي وعن سجلّي العدلي، وبعد فترة طويلة من الاعتقال التعسفي خرجت، علماً انني لم أمثل أمام أي جهاز قضائي ولم يصدر بحقّي أي حكم، وبقيتُ في الاعتقال بعد الافراج لمدة ستة اشهر بإنتظار تطبيق قانون الافراج”.
يقول فراس ان كل اسير بريء سيحرر ولو بعد حين وكل مذنب سينال جزاءه، وعن تجربته يقول:
“ان التأقلم مع الاخر هو الاهم وان كنت تختلف معه، أنا كنتُ مرغماً على تحمّل الاخر لان هذا الواقع فُرض عليّ وكنت احاول الابتعاد عن المشاكل قدر الإمكان. تعلمتُ ان في هذا العالم الكثير من الظلم وهناك اشخاص مهدور حقهم في الحياة وزاد ايماني بمقولة (كتير بالحبس مظاليم)”.