البابا يحاور الأديان من ألمانيا
برلين ــ غسان أبو حمد
أثبت بابا الكنيسة الكاثوليكية، بنديكت السادس عشر، عبر لامبالاته بحملات التشويش التي سعى إليها بعض السياسيين الألمان، وعبر صفحات الحوار الناجحة مع ممثلي الأديان السماوية في ألمانيا، وتحديداً “الكنيسة الإنجيلية” في عقر دارها، أن “مملكته” أيضا من هذا العالم.
في زيارة هي الثالثة له، تنقل الحبر الأعظم، ولمدة أربعة أيام (من 22 إلى 25 سبتمبر)، في المدن الألمانية، متحدثاً رسميا في البرلمان الألماني، وفاتحاً لأول صفحة حوار جدي وجريء مع ممثلي الأديان السماوية، وتحديداً مع كبار ممثلي الكنيسة الإنجيلية (الموصوفة بالإصلاحية)، في دير “اوغوستينر” الذي عاش فيه مارتن لوتر، الأب الروحي للمذهب البروتستانتي راهباً قبل 500 عام.
واعتبر المراقبون زيارة رأس الكنيسة الكاثوليكية لمدينة “تورينغن”، وهي الأولى من نوعها، منذ بزوغ الحركة الإصلاحية قبل 500 عام، بأنها “خطوة متقدمة وإيجابية للحركة المسكونية” (حركة دينية مسيحية تعنى تاريخيا بالتقريب بين الكاثوليك والبروتستانت).
وقد توجت الحوارات بين ممثلي المذهبين، الكاثوليكي والبروتستانتي، مراسم الصلاة في قداس مشترك أقيم بالدير، بحضور نحو 300 مدعو، على رأسهم المستشارة انجيلا ميركل والرئيس كريسيتان فولف ورئيس مجلس إدارة الكنيسة الإنجيلية في ألمانيا، نيكولاوس شنايدر، وإيلزه يونكرمان، أسقفة الكنيسة الإنجيلية في وسط ألمانيا.
وشاء بابا الكنيسة الكاثوليكية بنديكت السادس عشر أن يلتقي المؤمنين على إختلاف توجهاتهم، فأحيا مراسم قداس إلهي في كاتدرائية “سانت ماري في ساحة مدينة “أيرفورت” عاصمة ولاية “تورينغن”، بمشاركة الأسقف البروتستانتي يواخيم فانكه وأكثر من خمسين ألف مؤمن في ساحة الكنيسة الضخمة.
وإلى هذه الخطوة، التي قام بها البابا بنديكت السادس عشر للمرة الثالثة إلى موطنه، وإلى كلمته التاريخية داخل البرلمان الألماني بحضور كبار القادة السياسيين والروحيين الألمان، فتح الحبر الأعظم صفحة حوار هامة مع ممثلي الديانة الإسلامية في ألمانيا، التي قال إنها “أصبحت معلماً أساسياً من معالم المجتمع الغربي الأوروبي”.
وقد خضعت الزيارة التي قام بها الحبر الأعظم للكنيسة الكاثوليكية، بدورها إلى التوظيف السياسي. ما ان وصل برنامج الزيارة إلى أيدي النواب، حتى بدأ الإحتجاج من قبل مجموعة نيابية ينتمي معظمها إلى الكتلة اليسارية والحزب الإشتراكي الديموقراطي وبعض النواب من الحزب الأخضر (البيئة)، الذين يوجهون الإنتقاد إلى دور الكنيسة الكاثوليكية ويطالبون بتعميق الفصل بين الدين والدولة، ويصل بعض هؤلاء النواب في موقفه إلى حدّ الإعتبار أن مجرد ظهور رجل دين داخل البرلمان يتناقض مع مبدأ الحياد الديني الذي تعرفه الدولة الألمانية الجديدة.
وعلى الرغم من محاولة رئيس البرلمان الألماني نوربرت لامبرت تبرير دعوة البابا للحديث تحت قبة البرلمان، بأنها كانت بموافقة كل فصائل البرلمان، وبأنها دعوة إلى “رئيس دولة الفاتيكان”، ومن النادر وقوعها ثانية، إلا أن الكتلة النيابية المعارضة أبدت إحتجاحها و”مارسته” عبر اللامبالاة والتشويش على مناخ الكلمة بالأحاديث الجانبية.
وفي طليعة القيادات السياسية التي توجه الإنتقاد إلى رئيس الكنيسة الكاثوليكية، ياتي النائب الإشتراكي الديموقراطي ديتير وولف شفايتس، الذي ينتقد بشدة موقف البابا فيما يتعلق بالشذوذ الجنسي وحقوق المرأة وقضية وسائل منع الحمل. ويعتبر شفايتس أن بابا الكنيسة يحاول في حديثه، داخل البرلمان الألماني، “تجميل” سياسة ومواقف الكنيسة الكاثوليكية تجاه بعض الأحداث العالمية.
وكانت كلمة “رئيس الفاتيكان” ركزت على قيم الدين المسيحي والحق والعدالة ودولة القانون والسلام. مؤكداً أن مقياس عمل السياسي يجب ألا يكون النجاح أو المكاسب المادية التي يحققها، وإنما مدى النجاح في تحقيق العدالة وإرادة العمل من أجل الحق.
وحذّر البابا من “إستعادة” الحقبة النازية بما حملته من أحقاد ومن إنتهاكات للحقوق في التاريخ الألماني، داعياً إلى الحفاظ على البيئة وحمايتها وإلى التمسك بالقيم الدينية.
ورأت وسائل الإعلام الألماني، التي رافقت الزيارة، أن البابا نجح في لقاءاته ممثلي الكنيسة الإنجيلية بكيل التقدير إلى شخص مؤسس هذه الكنيسة، مارتن لوتر، بوصفه “باحثاً دائماً عن الله”، وحياه “كمثل للمسيحي المؤمن”، مشيراً إلى ضرورة إلتزام الكنيسة، اليوم، بهذا النهج.
وإلى اللقاء التاريخي الذي تحقق بين “الكنيستين”، الكاثوليكية والإنجيلية، فإن زيارة البابا كانت مناسبة تاريخية في اللقاء مع ممثلي بقية الديانات العالمية، وتحديدا الديانتين الإسلامية واليهودية.
ففي القاصدية الرسولية في برلين، إلتقى الحبر الأعظم ممثلين عما يقارب الأربعة ملايين مسلم في المانيا، فدعاهم إلى توقع التعاون والدعم من الكاثوليك ما داموا ينظرون باحترام إلى دستور ألمانيا والحدود التي يضعها بشأن التعددية. وقال “إن الدستور الذي وضع في ألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية متماسك بما يكفي لملاءمة مجتمع تعددي في عالم تهيمن عليه العولمة وإفساح المجال لأديان جديدة في الوقت ذاته”، معتبراً أن على المسلمين والمسيحيين إحراز تقدم في “الحوار والاحترام المتبادل”.
وحول العلاقة بين الكنيسة الكاثوليكية واليهود، قال البابا بنديكت السادس عشر إن “الثقة قد تنامت بين الشعب اليهودي والكنيسة الكاثوليكية”. لكنه أضاف أنه، في الوقت ذاته، “من الواضح بالنسبة لنا جميعا أنه ما زال يتعين أن تتنامى علاقة المحبة القائمة على التفاهم المشترك بين إسرائيل والكنيسة، بحيث يحترم كل جانب كيان الجانب الأخر”.