مُسلسل النووي الإيراني: حلقة استبعاد “الحل” العسكري
منذ العام ١٩٩٥ و طهران “على قاب قوسين من القنبلة”؛ حمل حزب العمل الإسرائيلي هذا الملف منذ ذلك الوقت مما وضعه في أولويات الإدارات الأميركية المتعاقبة حتى يومنا هذا. بعد سلسلة طويلة من العقوبات التي طالت جميع القطاعات الإيرانية و بعد خطاب شديد اللهجة ساد في الأسابيع الأخيرة، ها بنا نلحظ مرونةً في الموقف الأميركي وبداية إنفتاح من الناحية الإيرانية. قوبل اللجم الأميركي لحماس إسرائيل العسكري بشكل جيد من قبل المرشد الأعلى علي خامنئي الذي إستقبل رئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوغان بعد مشاركة هذا الأخير في قمة سيول للأمن النووي.
لكنه قبل الغوص في معاني هذه التطورات المهمة و لكي نفهم بطريقة علمية مقومات الموقف الإيراني يجب العودة إلى الحرب الضروس مع العراق ما بين عامي ١٩٨٠ و ١٩٨٨. كانت لا تزال الجمهورية الإسلامية شابةً في السياسة وفي التعامل السياسي مع التوازنات الإقليمية والدولية، ما جرها إلى معاداة الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية والشرق بقيادة الإتحاد السوفياتي. لكنه بالرغم من الخطاب الناري للإمام الخميني في وقته، فإنه لم يكن يملك مقومات تمكنه من تحقيق آماله في تصدير الثورة الإسلامية إلى البلاد العربية المجاورة. إلا أن دول الخليج العربي لم تكن ترى الأمور من هذا المنظار فالخطر الإيراني بالنسبة لها كان داهماً خصوصاً بوجود أقليات شيعية مهمشة في هذه الدول التي إجتمعت على دفع صدام حسين (الذي كان هو أيضاً حديثاً على رأس الدولة) العراقية، نحو الحرب مع الجمهورية الإسلامية. لكنه و على عكس الآمال المنشودة هذه الحرب لم تُسقط النظام الإيراني “في بضعة أيام” بل حصل عكس ذلك فالحرب شكلت اللحمة التي كان بحاجة إليها النظام الجديد ليثبت نفسه أمام الشعب الإيراني و أمام العالم. بل أكثر من ذلك، الحرب سمحت للملالي بإبعاد المكونات الأخرى لثورة ١٩٧٩ كالأحزاب اليسارية مثلاً و بطبيعة الأحوال إستفاد حكام طهران الجدد من إبتعاد العسكريين عن مراكز السلطة بسبب إنهماكهم بالحرب و بسبب إستشهاد العديد منهم على الجبهات.
لم تعترف الأُمم المتحدة بالعدوان العراقي إلا في سنوات الحرب الأخيرة، مما جعل إيران وحيدة في وجه العالم أجمع. إلا أن حليفاً غير مُرتقبٍ مد يد العون إلى الجمهورية الإسلامية ألا و هو الدولة العبرية التي كسرت الحظر الأميركي الذي كان يمنع تصدير أية معدات عسكرية أو أسلحة إلى إيران. معدات كانت القوات المسلحة الإيرانية بحاجة ماسة لها خصوصاً أن تسليحها كان غربياً عامةً و أميركياً خاصةً. من جهتهم الإيرانيين ساعدوا الإسرائليين على ضرب مفاعلا تموز١ و تموز٢ موقفين بذلك المشروع النووي العراقي.
العملية الإسرائيلية التي عُرفت بعملية بابل أصبحت من المراجع العسكرية، مما يدفع إلى الظن أن عملية مماثلة ستكون بمثابة الحل الأنسب لمشكلة النووي الإيراني. عدة مصادر أفادت عن وجود إتفاق ما بين تل أبيب و باكو يسمح للقوات الجوية الإسرائيلية بإستعمال المطارات الأذرية في نطاق ضربة جوية في العمق الإيراني. هذا الإتفاق، التي نفته نفياً قاطعاً سلطات باكو، يُشكل تسهيلاً فعلياً للضربة الجوية، إذ أنه يُذلل عدداً كبيراً من العقبات التكتيكية و اللوجيستية و كذلك بالنسبة للعقبات الدبلوماسية التي سيسببها التحليق في أجواء عدة دول عربية أو في الأجواء التركية.
هذا التعاون ما بين الدولتين أعلنته للملأ مصادر أميركية تأمل من خلال ذلك أن تقطع الطريق على إسرائيل و على هذه المغامرة العسكرية. لكن التعاون ما بين باكو و تل أبيب ليس بجديد، فالكل يذكر عندما أعلن الرئيس إلهام ألياف أن العلاقة ما بين البلدين هي “كالأيسبرغ ٩/١٠ منها تحت سطح الماء”. لكنه من الواضح أن وضع المطارات في تصرف الطائرات الإسرائيلية يُشكل تطوراً من نوع آخر ؛ دون أن ننسى أن باكو باتت معنية بشكل مباشر في الصراع مع توقيفها خلية لحزب الله اللبناني و عدد من قاتلي أخصائيي النووي الإيراني.
لكنه بالرغم من تقاطع المعلومات حول ضربة جوية، بدأنا نلحظ تغير في الموقف الإسرائيلي و اللذين يعارضون أية عمل عسكري أحادي من الإسرائيليين باتوا يُسمعون صوتهم. شخصيات فاعلة في السياسة الإسرائيلية كالرئيس السابق للموساد مئير داغان، الوزراء بني بيغين و شاوول موفاز الذي يترأس حزب كاديما. كلهم متفقون على أن مشكلة النووي الإيراني يجب أن تُحل من قبل واشنطن و ليس من قبل تل أبيب.
لكننا نعرف أيضاً أن مشكلات الشرق الأوسط تثير ردات فعلٍ في بعض الوقت متناقضة من قبل الإدارة الأميركية. ليون بانيتا، وزير الدفاع الأميركي، صرح ل CNN أن إيران و المملكة العربية السعودية (إن إستحصلا على القنبلة النووية) هما دولتان “عقلانيتان” و أن الردع النووي يمكن أن “يسيّر الأمور”.
إنما هذه المواقف إن تعددت و تناقضت فهي لم و لن تؤثر قط على الدعم الفعلي للدولة العبرية. أعلن الأميركيون أنهم سيزيدون دعمهم و مساعدتهم لتحسين أداء القبة الفولاذية (التي تُقدر فعاليتها الحالية بنسبة ٨٠٪). إذاً لمنظومة دفاعية، مما يلغي بطريقة ما الدعم لعمل عسكري هجومي. الرسالة وصلت إلى الحكومة الإسرائيلية و ما لبث إيهود باراك وزير الدفاع أن شكر الرئيس أوباما على “تفعيله أمن إسرائيل”. عدة مصادر تؤكد إسرائيلية تؤكد تخلي تل أبيب عن الضربة العسكرية أقله حتى ربيع ٢٠١٣ ؛ حتى أن الموساد أُجبر على تعليق نشاطه في الأراضي الإيرانية من ناحية عمليات القتل و عمليات التجنيد.
عدة خبراء أميركيين يؤكدون أن طهران ما زالت بعيدة عن إقتناء القنبلة النووية و إن قرار إقتنائها لم يؤخذ بعد في أوساط القرار الإيرانية. إذاً إعلان حربٍ في هذه الظروف ممكن أن يكون له مفعولاً رجعياً يدفع الإيرانيين نحو هذا القرار. ذلك علماً أن إعادة تأهيل البرنامج النووي بعد ضربةٍ عسكرية نسبة لمعظم الخبراء، سوف يأخذ ما بين ٦ أشهر و ٢٤ شهراً في أكثر الأحوال.
تصريحات الرئيس أوباما الأخيرة عن “تجاوزات في خطاب الحرب” تُظهر أن الخيار العسكري أُزيح نهائياً أقله في الوقت الراهن. خامنئي كان منتبهاً لذلك مُعلناً أن هذا التصريح بمثابة “نافذة فُرص” للوصول إلى حل دبلوماسي. لكنه في الوقت عينه يُعلن أن زمن “الوهم” ولى بالنسبة “لوضع إيران على ركبتيها” من خلال العقوبات. كل هذه التصريحات تؤكد أن الرجلان يودان الوصول إلى حل، مما يُنذر بمفاوضات جدية أوساط الشهر الجاري.
فوز خامنئي في الإنتخابات الأخيرة في وجه المعارضة و في وجه الرئيس أحمدي نجاد هما في غاية الأهمية. فمرشد الثورة الذي أعاد تثبيت حكمه بات قادراً على تجاوز مخاوف قلب السلطة التي خلقتها الثورة الخضراء عام ٢٠٠٩. إذاً تلاشي الخوف من “مؤامرة” غربية يسمح بطريقة ما بمعاودة المفاوضات على أُسسٍ جديدة.
السياسة الداخلية الإيرانية تعكس أيضاً هذا التحول الجوهري. تعيين رفسنجاني على رأس مجلس تشخيص مصلحة النظام لمدة ٥ سنوات فاجأ الكثير من المراقبين ؛ إنما هذا التعيين مرتبط أيضاً بالمفاوضات القادمة مع الدول الست (أعضاء مجلس الأمن الدائمين + ألمانيا). خامنئي بحاجة إلى شخصية مثل رفسنجاني في هذا السياق، مما يُفسر أيضاً تعيين حسن روحاني (كبير المفاوضين سابقاً و الرئيس السابق للمجلس الأعلى للأمن الوطني) كذلك الأمر بالنسبة لتعيين غلام زاده (الرئيس السابق لمنظمة الطاقة النووية الإيرانية).
كل هذه التعيينات تُظهر أن مرشد الثورة يُحضر الأجواء للتنازلات القادمة و أن المجلس السابق ذكره سيكون له دور مهم في المفاوضات. مما يسمح لخامنئي بالإستفادة من أفضل المفاوضين و في نفس الوقت بعدم تحمل المسؤولية الكاملة عن التنازلات الضرورية لحل الأزمة بطريقة مشرفة لجميع الفرقاء.
نلحظ أيضاً عودة الدور التركي إلى الواجهة مع زيارة إردوغان لطهران. أهمية هذه الزيارة تكمن في رصد الموقف الإيراني و في الرسالة التي أوصلها رئيس الوزراء التركي إلى خامنئي. تعهد إردوغان خلال الزيارة برفع التبادل التجاري إلى ٣٥ مليار دولار ما بين تركيا و إيران لهذا العام ؛ علماً أنه تعهد للرئيس الأميركي بخفض مشتريات النفط الإيراني التركية إلى خُمس قيمتها الحالية. مما يُظهر أنه يحاول أن يستعيد دوره الوسطي ما بين البلدين و ليس من المستبعد أن يكون رئيس الوزراء التركي، كونه على رأس حكومة بلد فاعل في حلف الناتو، قد طمأن طهران بخصوص التقارب بين باكو و تل أبيب.
طهران إستطاعت أن تُثبت دورها الإقليمي مع تعثر الثورة في سوريا و عدم قدرتها على الإطاحة بحكم الأسد، يضاف إلى ذلك توضح الموقف العراقي على المستوى الإقليمي و العربي. إذاً تركيا، التي تحاول التميز عن المحور السعودي الأميركي، إستوعبت أن الحرب ستضر بمصالحها و بالتعاون بالنسبة للموضوع الكردي الذي يبقى في أعلى سُلم أولوياتها . نفس القناعات هي التي دفعت الأتراك إلى إتخاذ المبادرة السابقة مع البرازيل منذ عامين، إنما الوضع الإقليمي الحالي يدفع بهم من جديد إلى التدخل بالرغم من فشل مبادرة ٢٠١٠.
من الواضح أن العقوبات تلقي بثقلها على الإقتصاد الإيراني و على المفاوضات القادمة و أن الأجواء الإنتخابية في واشنطن تدفع الرئيس الأميركي إلى التشدد. لكنه بالرغم من كل ذلك بات من الواضح أن كل المعنيين بهذا الملف يريدون التقدم في المفاوضات مبعدين شبح حربٍ ستكون تداعياتها خطيرة و كبيرة على جميع المستويات و خاصة الإقتصادية منها بالنسبة للدول الغربية.