المُتعرِّية قصة (٢)
بقلم عصام حمد
نَزَلَتْ إلى الطريق عاريةً لا يَستُرُ بدنَها شيء!
لطالما فكَّرتْ في هذه التجربة، وتخيَّلتْ ما ستجلبه لها من لذَّةٍ فريدة، ولكنَّها لم تجرُؤْ على خَوضِها إلَّا الساعةَ.
خلعَتْ عنها ثيابَها قطعةً قطعةً، وقلبُها يخفِق في صدرها كعُصفورٍ أسيرٍ يرى الشِّباكَ تتمزَّقُ من حوله.
ولمَّا تعرَّتْ تماماً عاوَدَها مرَّةً أُخرى الإحساسُ الذي ردَّها في المرَّات السابقة عن مُحاولتها الجريئة هذه، الإحساسُ باستنكار الناس لفَعلتها. غير أنها أدركتْ هذه المرَّةَ أنَّ تحدِّيَها للناس أصلٌ لِما تَشعُر أنها ستنالُه من لذَّةٍ أكيدة. هذه اللذَّة التي أخذت تُرعِشُ روحَها حتى قبل أن تسحبَ مِزلاجَ الباب، فتفتحَه- في عزِّ الظهر- وتخطُو إلى ما وراء العتبة، وليس على جسدها الأبيض المُمتلئ شيءٌ، أللهُمَّ إلا دبُّوساً في شعرها الطويل تَرُدُّ به خصلاته عن جبينها وعينَيها، وإسكربينةً في قدمَيها، سوداءَ لامعةً، ذات كعبٍ عالٍ تتَّقي بنعلها الأذى الذي قد يَلحَقُ بباطن قدمَيها من حصَى الطريق.
غمرت الشمسُ جسدَها العاري بفيضٍ من الأشعَّة القويَّة الحارَّة. واجتاحتها قُشعريرةٌ قاسيةٌ وهي تتلفَّتُ في عصبيَّة يميناً ويَساراً، إذ أنَّها بخطوةٍ واحدةٍ وراء عتبةِ بيتها وجَدَت نفسَها في جانب الطريق العريض مُباشرةً!
أما قلبُها- العصفورُ الأسيرُ- فقد طارَ من بين ضُلوعها تاركاً إياها باردةً من الخوف.
ولكنْ لم يستنكرْ تعرِّيَها أحد!
كان بيتُ مهى الصغيرُ في منطقةٍ نائية، نائيةٍ جدَّاً عن أيِّ مُجتمعٍ للناس في قريةٍ أو مدينة. بل إنَّ أقرب مدينة- المدينة الغربيَّة- تقع على بُعدٍ لا يَقِلُّ عن عشرة كيلومترات تَنحدِرُ إليها هذه الطريقُ المُعبَّدةُ بالأسفلت، والتي لم يكُن بالنادر- مع ذلك- أن تقطعَها سيَّارةُ جِيْبٍ لصيَّادينَ من هُواة الصيد البرِّيِّ، أو شاحنةُ نقلٍ للبضائع عبرَ الحدود، أو دَورِيَّةٌ للجيش بالعَرَبات المُصفَّحة. وعدا ذلك، فالطريق مُقفرةٌ إلَّا من الأشجار والعصافير والنسائم والشمس الحامية.
عبرت مهى الطريقَ إلى الجانب الآخر- مُهروِلةً كأنَّما كانت تخشَى على نفسها من سيَّارةٍ مُسرعة. ضحكت عابثةً. ثم أخذت تتمشَّى والنسيمُ ينزلقُ على جسدِها العاري، مُتلمِّساً تكوُّرَ نهدَيها، وضُمورَ بطنها، وامتلاءَ ردفَيها، وانخسافَ ما بين فخذَيها، واستطالةَ ساقَيها ببطَّتَيهما المُنتفختَين بوَساطة الكعب العالي الذي تَنقُلُ به خطواتها الجريئة الأُولى على الطريق!
وكانت مهى لاهيةً بنشوتها، النشوة التي بعثها انطلاقُ ثدييها الناهدين- اللذين راحا يترنَّحانِ كسِكِّيرين ثمِلَين وقحَين لا يكترثانِ للوم- فلم تَنتبِهْ لنفسها إلا وهي في عُرض مُنعطفٍ للطريق ينحدرُ بها نحو الغرب. وبحركةٍ تلقائيَّةٍ رفَعَت الصبيَّة يداً إلى صدرها، ويداً سَترَتْ بها ما بين فخذَيها وهي تُحدِّقُ في ذُعرٍ إلى الأُفُق الغربيِّ في نهاية الطريق المُنحدرة حيث تبدو للناظر بناياتٌ صغيرةٌ، مُتراصَّةٌ، الواحدةُ أعلى من الأُخرى، وقد تعفَّرَ الجوُّ فوقَها بالهواء الرماديِّ الكثيف.
سَخِرَتْ مهى من ذُعرها. وكشَفَتْ ما كانت تستُرُه من عُريها بحركةٍ عصبيَّةٍ، ثم أسرعت بالعودة!
قَهقَهتْ ضاحكةً عندما أغلقَتْ وراءها الباب لِتُفاجَأَ بيدها تمتدُّ عفواً إلى موضع زرِّ التنُّورة من خَصرها لتخلَعَ- إذ دخَلَت البيتَ- ما نَسِيَتْ أنها خرَجَت اليومَ من دُونه!
* * *
دأبَتْ مهَى على فَعْلَتها يوماً بعد يومٍ، تعيشُ لذَّةً مُتجدِّدة: تتمشَّى عاريةً تماماً على الطريق في وَضَح النهار حتى تَصِلَ إلى المُنعطف المُؤدِّي إلى المدينة الغربيَّة، وقد تغلَّبت أخيراً على ما كانت تشعُر به من ذُعرٍ لدى انكشافها في المُنعطف أمام تلك البنايات البعيدة. فصارت الفتاةُ- إذا بلغَت المُنعطفَ ذاك- ترقُصُ في مُجُونٍ وعَبَثٍ، مُتحدِّيةً ساخرة، من غير أنْ تَعترفَ لنفسها باستحالة شُهود وقاحتِها على ساكِنِي تلك البنايات!
* * *
ولكنَّ فتاةً في مثل سِنِّ مهى لا تستطيع مُواصلة العيش في هذه المنطقة النائية التي لم يكُن لها فيها من لذَّات الحياة سوى التعرِّي- اللذَّة العزيزة التي لن تجدها في أيِّ مكانٍ آخر.
* * *
شَعَرتْ مهى بالضِّيق من ثيابها، وبالحرِّ، حتى قبلَ أن ترتديَها. ولكنْ لم يكُن بُدٌّ من ارتداء الثياب.
وبنفْخَة تذمُّرٍ نهضَت في الصباح إلى خزانتها التي كانت فارقتْها من زمان. ففتَحَتْ ضَلفتَيها. ووقَفَتْ تتأمَّلُ الثيابَ المُعلَّقة في سُخط ونفُور. تردَّدتْ مليَّاً ثم سحَبت الدُّرجَ واستخرَجتْ كيلوتاً صغيراً. ثم أدخلت فيه رِجلَيها ورفعته بصعوبةٍ حتى بدا لها أنَّه يشُدُّ على رِدفَيها ووسَطها كأنَّما عن تَشَفٍّ!
وتناولت سُتيانةً، ثم ربَطتها حول ثدييها وقد صَحِيا من سُكرهما على كآبةٍ وضيق.
أُفٍّ من هذا الحرِّ!
ونَضَحَ جلدُها بحُبَيْبات العَرَق.
أنزلت عن التعليقة قميصاً أبيضَ طويلَ الكُمَّين. فارتدتْه وشَبَكتْ أزرارَه ما خلا الزرَّ الأعلى؛ أهملتْه، وفرَّجت فُتحةَ القميص عن الانتفاخ المحصُور للثديَيْنِ الحبيسَين، قائلةً لنفسها في تمرُّد: “لماذا أخنُقُ نفسي من الآن؟ فلأُرجئ الاختناقَ حتى أشارفَ المدينة”!
ثم أخذَتْ بالتنُّورة الطويلة السوداء. رِجْلاً بعد رِجْلٍ دخَلَت فيها، فرفَعتْها إلى خصرها ساترةً عُريَ فخذَيها الأبيضَين، وساقَيها إلى ما فوق الرُّسغَين بقليل.
* * *
انطلقتْ مهى في هجرتها إلى الغرب مع الضُّحى. فقطَعتْ- لابسةً- الطريقَ التي شَهِدَتْ لذَّتها المُفتقَدة، حتى أدركت المُنعطفَ. تنهَّدتْ، ثم انحدرتْ نحو المدينة.
* * *
بلغت مشارفَ المدينة بعد الظهر. كانت مُتعَبةَ القدمَين، مُبتلَّةَ الجسم بالعرق تحت ثيابها الضيِّقة. ستتخلَّص من هذه الثياب حالَ عُثورها على حُجرةٍ تُؤويها. بشَّتْ للخاطر اللذيذ. ستُسدلُ الستائرَ.. وإذا بالفتاة تسمع من ورائها هديرَ سيَّارة. تُواصلُ مهى سيرَها على الرصيف من غير أن تلتفتَ خلفَها. كان تعبُها أشدَّ من أن تُكلِّف نفسَها حركةً غير ضروريَّةٍ كالتلفُّت إلى الخلف. حاذتْها السيَّارةُ وقد لاحظت مهى أنها خفَّفت من سُرعتها شيئاً ما. ولكنَّها لم تكترث للأمر إلا حين ترامى إلى سَمعها- والسيَّارةُ قد تجاوزتها بسرعة- سبابٌ مُقذعٌ وصيحةُ استهجان! ذهلتْ لذلك. وأتبعت السيَّارةَ بصرَها مُستطلعةً. لماذا السبابُ وعلامَ الاستهجانُ؟ عند ذاك تنبَّهتْ إلى أنها نَسِيَتْ قميصَها مُنفرجاً عن أعلى صدرها! شهَقت في إنكارٍ وهي تضرب بيدها على فُتحة القميص. وزَرَّرَتْهُ حتى آخر زرٍّ على نحرها، ثم واصلتْ طريقَها وهي تلُوم نفسها.
دخلت مهى من بين البنايات العالية إلى شارعٍ مُزدحمٍ بالسيَّارات والصَّخَب. وحثَّت خُطاها فعبَرت الشارعَ مُهروِلةً إلى الرصيف الآخر. ثم.. ما هذه الضوضاءُ التي تَفجَّرتْ فجأةً؟ ماذا هنالك؟ صُراخُ فرامل يَجرحُ الآذانَ، وأبواقٌ زاعقةٌ تُوتِّر الأعصابَ..
تلفَّتت مهى حَوالَيها فرأت الناسَ، الناسَ جميعاً.. عُراةً! عُراةً ينظُرون إليها هي ما بين مُندهشٍ وغاضبٍ وساخر!
لم تُصدِّقْ مهى عينَيها. وجزعتْ إذ خطَرَ لها أنها قد انهوَسَتْ بالتعرِّي حتى أنها لترى الناسَ عُراةً! ويبدو أنهم يعرفُون ذلك فيها! داخلها الخوفُ من انفضاح سرِّها على هذا النحو الغريب.
_ وقِحة!
_ قليلة الأدب!
_ تلبسُ ثياباً في مدينتنا.. يا لَلصَّفاقة!
_ مَزِّقُوا عنها هذه الأقمشةَ التاريخيَّة.
تراجعتْ مهى مذعورةً حتى التصقتْ بجدار. وكأنَّ صلابةَ الجدار وراء ظهرِها قد ثبَّتَتْ ما تزعزَعَ من عقلها. فأمكنَها أن تُفكِّر فيما يُقال بتلك النبرات الغاضبة.
يقولون إنها تلبس ثياباً.. وإنَّ في ذلك وقاحةً وصَفاقة.
_ ماذا تنتظرون.. عَرُّوها من ثيابها!
_ يا لَلإهانة!
_ ننتظر الشُّرطة.. لا حقَّ لنا في تطبيق النظام بأيدينا.
نعم. أدرَكَتْ مهى الواقعَ الغريبَ في هذه المدينة. لم يكُن الأمرُ..
_ الشُّرطة قادمة!
ولكنَّ مهى استطاعتْ أن تُراوغَ بعضَ الرجال- العُراة- الذين حاولوا مُحاصرتها. وهربتْ بما استجدَّ في رِجلَيها المُرتجفتَين من قُوَّة.
سمعت الناسَ يتصايحُون في أعقابها. التفتتْ فرأت البعضَ يُلاحقونها وهم يهتفُون بالمارَّة أن يَقبِضُوا على “الوقِحَة ذات الثياب”!
ركضت مهى وهي تلهَثُ من الجهد، ومن الخوف، غيرَ مُصدِّقةٍ ما يحدُث لها. ولقد حملتْ نفسَها على الاعتقاد أنها في كابوس، وأنَّ أولئك العُراةَ الذين يُلاحقُونها، وهؤلاء الذين تلتقي بهم في ركضِها الخائفِ فيفتحُون أفواهَهم دهشةً- ما هُم غيرَ أشباح أحلام، قريباً يختفُون عندما تفتحُ عينَيها في سريرها. ولكنْ حتى في الكوابيس لا يَستسلمُ الحالمُ للأشباح التي تُطاردُهُ. لذلك قرَّرتْ مهى- وقد نالَ منها الإعياء، ولم تَعُدْ قادرةً على الهُروب من هذه الحالة العامَّة من الغضب والدهشة- أن تختبئ في مكانٍ ما ريثما تعود إليها نفسُها فترى.. كادت تتعثَّرُ وهي تميلُ إلى زاروبٍ تقُوم في نهايتهِ بنايةٌ، وقد أغراها باللجُوء إليها خُلوُّ شُرُفاتها من الناس.
وَلَجَت المدخلَ العميقَ شبهَ المُظلم، فوجدتْهُ خالياً أيضاً. ترامتْ إليها من الطريق أصواتٌ لاهثة، وصيحاتٌ حازمةُ النَّبرةِ تأمُرُ الرجالَ بالتفرُّق والبحث. ارتعدت مهى. اتَّجهَتْ إلى الدرج. وقعُ أقدامٍ تَهبِطُ. نزلت الدرجاتِ القليلةَ التي كانت قد ارتقتْها. ثم خَفَّتْ نحو زاويةٍ من المدخل مُعتِمة. فوقَفَتْ فيها مُلتصِقةً بظهرها إلى الجدار، واضِعةً راحتَيها عليه في حذرٍ وتوجُّس.
اقتربَت الخطواتُ الهابطة. حبَسَتْ مهى أنفاسَها المُضطربةَ وهي تتمنَّى ألَّا يلتفِتَ الشخصُ الهابطُ إلى يمينهِ فيلمحَ قميصَها الأبيضَ الذي سيَفضحُها حتماً بإشراقِ بياضهِ في العتمة المُحيطة!
أُمٌّ وولدُها- عاريانِ طبعاً في هذه المدينة الغريبة- وقد ارتفعَ صوتُ الولدِ الرفيعُ يسأل أُمَّهُ السؤالَ تلوَ السؤالِ، والمرأةُ مُستغرِقةٌ- لحُسنِ الحظِّ- بإجابته.
ولمَّا خرَجا من البوَّابة الضيِّقة، عادت مهى إلى التنفُّس لا تدري كيف تتخلَّصُ من ورطتها. لكنَّ قلبَها كادَ يكُفُّ عن الرفرفة في اللحظة التالية عندما تناهى إليها من خارج المدخل صوتُ رجلٍ لاهثٍ يسأل الأمَّ الخارجةَ لتوِّها من البناية:
_ هل رأيتِ فتاةً لابسةً ثياباً تدخُلُ هذا الزاروب؟
_ لابسةً ثياباً ؟! لا!
لاحظَتْ مهى لهجةَ المرأةِ الجافيةَ غيرَ المُصدِّقةِ، كأنَّها تتَّهمُ الرجلَ السائلَ باصطناع سؤالٍ للتحرُّش بها.. يا لَهؤلاء الناس! كانت مهى ترغبُ في مزيدٍ من الوقت الهادئ للتفكير في الأمر. ولكنَّ خوفَها من مُداهمة الناس لها وهي “لابسةٌ ثياباً”- ولا تَعرِفُ ماذا سيفعلُون بها إذ ذاك، وإنْ كانت تستطيعُ أنْ تُخمِّنَ ذلك- جعلَها لا تتردَّدُ في اتِّخاذ قرارها.
وبعد بُرهةٍ، خرَجَتْ من الزاروب فتاةٌ عاديَّةٌ جدَّاً، ليس على بدنها شيءٌ يستُرُهُ، ولكنَّها كانت حزينةَ الوجهِ، كأنْ ما أرعَشَها باللذَّةِ يوماً أنْ تَمشيَ عاريةً في الطريق.