نيران الحرب تهدد بالتهام السودانين
انكفأ الحديث عن المفاوضات وفرص السلام بين السودان وجنوبه المنفصل قبل أقل من عام، بعدما طغى أزيز الرصاص المتصاعد من منطقة هجليج على ما عداه، معيداً أجواء الحرب. وكأن سنوات الحرب الأهلية الثمانية عشر التي شهدت اقتتالاً دامياً، وراح ضحيتها أكثر من مليوني قتيل، ومهدت الطريق أمام حصول الجنوب على الانفصال وتحقيق حلمه بدولته الخاصة، لم تكن كافية لتطوى صفحة الحرب على جانبي الحدود. وإن كان البحث عن المتسبب بالاشتباكات سيغدو مجرد تفصيل متى ما استعرت الحرب التي تُقرع طبولها بوتيرة متصاعدة، فإن ما يلفت الانتباه هذه المرة انقلاب الأدوار.
فبعدما كان الجنوب في الغالب “الضحية” ويشكو ظلم وجور ذوي القربي بحقه، فإن الدور انتقل هذه المرة إلى الشمال بعدما تبين أن الجنوب قد أعد جيداً لمعركته في هجليج عن سابق تصميم، زاحفاً بقواته إلى منطقة يدرك أنها ليست من ضمن الأراضي الجنوبية أو حتى من بين تلك المختلف على ترسيمها بين جوبا والخرطوم.
نشوة النصر السهل الذي تحقق في هجليج أسكرت على ما يبدو الرئيس الجنوبي، سيلفا كير ميارديت. ولم يكتف رئيس الدولة الوليدة بتأكيد عدم وجود أي نية للانسحاب من هجليج التي سيطرت عليها قوات الدفاع الشعبي، بل ذهب أبعد من ذلك متوعداً بالتقدم نحو منطقة أبيي المتنازع عليها بين الشمال والجنوب، طارحاً تساؤلات حول مصدر الثقة التي يتمتع بها الرئيس الجنوبي. وهي الثقة التي دفعته أيضاً للتأكيد أمام برلمان بلاده قوله للأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون الذي اتصل به للبحث عن حل، “أنا لست تحت اوامرك”.
كما أن الثقة نفسها هي التي جعلت جوبا تطرح ثلاثة شروط للانسحاب من هجليج وهي انسحاب القوات السودانية من أبيي المتنازع عليها، فضلاً عن وقف «السودان كل اعتداءاته البرية والجوية فوراً»، إلى جانب نشر «مراقبين دوليين» للقيام بدوريات على طول منطقة حدودية منزوعة السلاح.
على المقلب الآخر، أحسنت حكومة الانقاذ لعب دور الضحية. فخرج الرئيس السوداني، عمر البشير، متبرئاً من أي مسؤولية عن التطورات، متهماً اخوته في الجنوب باختيار الحرب والضرب بعرض الحائط مصالح البلدين اللذين ينوآن تحت أزمات اقتصادية، يدرك معها الشماليون أنها لن تؤدي إلاّ إلى مزيد من التردي في أوضاعهم. وهو ما يفسر اختيارهم الوقوف إلى جانب الحكومة السودانية في معركة الدفاع عن سيادتها المخترقة، بالرغم من امتلاكهم تحفظات عديدة على أدائها الاقتصادي والاجتماعي. وهكذا، نجحت جوبا، من حيث لا تدري في إعادة الالتفاف الشعبي حول الحكومة السودانية، التي تسعى جاهدة لرد الصاع صاعين لجارتها الجنوبية بعدما أدى انسداد افق المفاوضات العبثية التي كانت تجري على فترات متباعدة في اديس أبابا إلى انفجار الوضع أمنياً وتهديد الأمن النفطي الشمالي على اعتبار أن النفط المستخرج من منطقة هجليج يعادل نحو نصف الإنتاج اليومي للسودان من الخام، والذي يبلغ 115 ألف برميل يومياً. وبالتالي فإن استعادة المنطقة، واستنئاف عمليات ضخ النفط أمر لا بد منه في نظر الخرطوم سواء من خلال المفاوضات أو الحرب التي يمكن أن تفجر المنطقة.
وهو انفجار لا تقتصر المسؤولية فيه على الخرطوم أو جوبا، بل تتشارك فيه جميع الأطراف التي رعت اتفاقية السلام الشامل التي تم التوقيع عليها في العام 2005. فالاتفاقية التي وضعت على أساس إحلال السلام والتمهيد أمام منح الجنوبيين حق تقرير المصير، أثبتت الفترة الانتقالية التي امتدت لست سنوات، أنها مليئة بالألغام. اذ انها تركت مجموعة من القضايا العالقة دون ايجاد حلول لها على أمل أن ينجح حزب المؤتمر الوطني في الشمال والحركة الشعبية لتحرير الجنوب، اللذين مثلا شريكي الحكم طوال السنوات الماضية، في ايجاد تسويات ملائمة لها.
وهو تقدير ثبت خطؤه، ولم يكن من المفترض على الأطراف الراعية للاتفاقية الوقوع فيه. اذ أن القضايا العالقة ليست ثانوية بل على العكس من ذلك تعد من أخطر القضايا، بدءاً بقضة أبيي، التي يصر الشمال على تصوير أن الخلاف حولها هو مجرد خلاف حول منطقة حدودية تحتوي كميات من النفط، في حين أن الحقيقة أبعد من ذلك. وترتبط بانتماء عدد لا بأس به من قيادات الحركة الشعبية إلى أبيي، وبالتالي فإن التخلي عنها من قبل الحركة الشعبية لم يكن وارداً في الأساس وهو ما أثببته جولة الاشتباكات الحديثة عندما طرحت جوبا معادلتها الجديدة القائمة على الانسحاب من هجليج مقابل أبيي.
أما ملف النفط وعائداته، فهو لا يقل أهمية على اعتبار انه يشكل رافداً أساسياً لميزانية الدولتين، ومن دونه فإن الانهيار الإقتصادي في الشمال يصبح حتمياً بعدما فشلت الحكومة السودانية في استغلال الفترة الانقتالية لتنويع مواردها المالية بالقدر المطلوب. أما في الجنوب، فالتداعيات لا تقل خطورة، سواء على الصعد السياسية او الاقتصادية وحتى الاجتماعية، على اعتبار أن انقطاع شريان النفط سيجعل من مهمة بناء الدولة الوليدة مهمة أشبه بالمستحيلة ليضيع معها الحلم بالسلام الداخلي.
ولذلك، فإن خطورة المرحلة، تقتضي ممارسة أقسى درجات الضغط على طرفي الحكم في الشمال والجنوب للجلوس حول طاولة مفاوضات وايجاد حلول نهائية لمختلف القضايا ضمن تسوية شاملة تضع حداً نهائياً لطبول الحرب، أما ما دون ذلك، فإن نيران الحرب ستصبح حتمية، كلما نجح البعض في اطفائها حيناً ستستعر من جديد لتقضي على أي أمل بالسلام على جانبي الحدود.