الطائفية المقدّسة
باستثناء الحزب الشيوعي اللبناني والحزب القومي السوري الاجتماعي، لا يمكن لأي حزب لبناني من الأحزاب الفاعلة أن يدّعي أنه حزب غير طائفي، بل من غير المنطقي أن يتحدث هؤلاء عن مواطنية صحيحة، بينما يغرقون في انتماءاتهم العقائدية الدينية حتى آذانهم.
المشكلة لا تنحصر بهذا الادّعاء الكاذب لكل حزب من الأحزاب الطائفية بأنه حريص على بناء الدولة المدنية العصرية، بقدر ما تكمن خطورتها في تداعيات أي مشكلة أو قضية تتحول الى موضوع انقسام بين الأحزاب، حيث تصبح المشكلة طائفية بامتياز متجاوزة لما هو سياسي أو حزبي او حتى اجتماعي اقتصادي معيشي.
لعل القضية الأكثر حساسية اليوم هي قضية كتاب التاريخ وما يثيره من انقسامات عميقة مع تحوّل بعض «الزعامات» السياسية الطائفية الى “مقدّسات لا يجوز المس بها”.
فكيف يمكن للشعب اللبناني أن يقرأ تاريخه على نحو مغاير للأخلاق الوطنية، ويقبل بأن يكون أحد الخونة الكبار من عملاء العدو الاسرائيلي في لبنان، رمزاً من رموز البلد؟ فقط لأنه مدعوم من ابناء طائفته ومن كهنوت يفسّر الخيانة وفق مصالحه السياسية والديموغرافية. تسويغ غريب غير منطقي ولا أخلاقي.
إذن المشكلة الطائفية تعرقل أبسط الأمور المتعلقة ببناء الدولة، وهي عمل القضاء من أجل اجتثاث أقذر جريمة عرفها التاريخ وهي الخيانة للوطن وتجاهل الدم الذي أُريق أو الخسائر التي حلّت بالبلد نتيجة هذه العمالة للعدو.
إذن تبرير الخيانة بمعايير طائفية هو أحد جوانب المشكلة، أمّا الجانب الآخر من المشكلة فيكمن في هوية المقاومة التي أخذت على عاتقها تحرير الأرض ودحر العدو عن الجزء الأكبر من لبنان.
فلو كانت هذه المقاومة وطنية حقيقية غير منتمية الى فكر مذهبي أحادي، لكانت بعد تحرير القسم الأكبر من جنوب لبنان استطاعت اقامة محاكمات ميدانية لكل الخونة ومن كل الطوائف من دون أن يهتز لها جفن.
لكن هذه الهوية “المقدّسة” هي التي أعاقت اتمام عملية التحرير بشكل كامل. لأن التحرير لا يمكن إنهاء فصوله مع بقاء الخونة من دون حساب أو بمحاكمات تافهة لا قيمة لها على مستوى ردع هذه الجريمة في المستقبل.
القضية نفسها يمكن قياسها على الموضوع السوري وما أحدثه من انشقاقات في لبنان، فوقوف حزب الله الى جانب سوريا في وقت يتقدّم فيه أكبر تنظيم اسلامي عالمي (الإخوان المسلمون) لاستلام السلطة في أكثر من بلد عربي، هو غباء سياسي بامتياز، حتى ولو كان مسوّغ الموقف هو دعم سوريا الطويل للمقاومة وما تجود به حناجر جهابذة عملاء الاستخبارات السورية في لبنان على شاشات التلفزة حول الموقع الاستراتيجي لهذه الدولة “الممانعة” وصد المؤامرة.
فمن ناحية لا يجوز لحزب يدّعي الطهرانية الأخلاقية أن يقف مع المجرم ضد شعبه، فيما هو يحتفل كل عام بثورة الإمام الحسين على يزيد بن معاوية الظالم والشبيه الى حد كبير ببشار الأسد وبغيره من الحكام العرب.
ومن ناحية ثانية لن يكون موقف الحزب، في ظل هذه الاصطفافات المذهبية وانخراط الجزء الأكبر من الأحزاب المحسوبة على الطائفة المسلمة السنية في صفوف الثورات العربية، موقفاً ذكياً خصوصاً أنه يغذّي الهواجس حول ما كان حتى يوم الأمس مجرد «مؤامرة»، وهو ما صرّح به الملك الأردني عبدالله الثاني منذ سنوات عن هلال شيعي من ايران الى لبنان مروراً بالعراق وسوريا.
لا أظن أن من مصلحة حزب الله معاداة شريحة واسعة من التيارات السياسية والدينية التي كان بالأمس يتغنى بالتعاون معها تحت شعار الوحدة الإسلامية، فيما يبدو أن المستقبل لهذه الأحزاب. وبالتالي هذه الأحزاب التي وصلت الى السلطة في مصر وتونس، والى حد ما في المغرب، ليست علمانية ولا وطنية انما هي مذهبية بامتياز، وهي لا تنظر الى النظام السوري إلاّ من منطلق كونه نظاماً علوياً «حاقداً على اهل السنة» حتى لو كان كل أهالي دمشق وحلب من أهل السنة الى جانبه. هذا العامل أيضاً يغذّي حرباً مستقبلية بين السنة والشيعة، إذا لم يع الجانبان خطورة مواقفهما المستندة الى أدبيات حرب الجمل وموقعة كربلاء، بدلاً من فهم واقع الأطماع والمصالح ولعبة السلطة.
إذن، الهوية الطائفية لأي جهة من الجهات، هي هوية قاتلة– على حد وصف الكاتب اللبناني الفرنسي أمين معلوف- ومن لا يع تأثير هويته الطائفية على طبيعة مواقفه السياسية، فالأفضل ألاّ يعمل في السياسة ويبقى أسير المحراب وحلقات الذكر وجلسات المساجد، لأن ذلك أسلم له ولغيره.
أما الحديث عن بناء دولة مدنية عصرية في ظل أحزاب معظمها طائفي، (حتى العلماني منها التحف غطاء الطائفيين)، فهو من أكثر الأمور خيالاً، ومن أصعبها تحققاً، ولن يكون هذا التمسك بعمائم رجال الدين وهذه العنجهية المذهبية سوى هويات قاتلة لطوائف تدّعي لنفسها القداسة، فيما هي من أكثر الظواهر تخلفاً وبعداً عن قيم الأخلاق والدولة المدنية.