الطائفيّة اللبنانيّة ومسمار جحا
الحديث عن الطائفية وانعكاساتها على الواقع الاجتماعي والأداء السياسي في لبنان لا ينتهي، فكلما تقدّم بنا الزمن وتطورت البشرية في العديد من المجالات، ترانا في لبنان نعود إلى عصور “وسطوية”، متمسكين بسلطات “الأولياء الفقهاء”.
الأنكى من ذلك، أنه كلما حاول أحد أن يخطو خطوة نحو الدولة المدنية، متجاهلاً البعد الطائفي للحكم، برزت أمامه العراقيل والعوائق من كل حدب وصوب، حتى لا تهتز مصالح الإكليروس، فيفقدوا معها امتيازات بدأت منذ عهد لبنان القائمقاميتين وكرّسها الفرنسيون واستمرت حتى الآن رغم أن اتفاق الطائف الشهير وضع آليات لإلغاء الطائفية السياسية ولم يُنجز منها أي شئ بعد 22 عاماً على تعديلات الدستور.
فمنذ سنوات قليلة تجرأ وزير الداخلية السابق زياد بارود على إصدار قرار يمنح المواطن حقه بشطب المذهب عن وثائقه الشخصية في دوائر الدولة، إلاّ أن تداعيات هذا القرار، الذي رأى البعض فيه خطوة مهمة على طريق الغاء الطائفية، بدأت ترتد سلباً على من قام بشطب مذهبه، خصوصاً لدى تقدمهم الى وظائف حكومية هي في الأصل موزعة على المذاهب.
وبدا أن الصراع على أشده بين السلطات المدنية والهيئات الروحية، ففيما كانت الأولى تحاول أن تتماهى مع القرار الجديد كانت الثانية تضع العراقيل أمام شاطبي مذهبهم، مشترطة لتسهيل أمورهم في دوائر الدولة العودة عن قرار الشطب.
هذا ما حصل مع أحدهم، حين أراد استصدار إفادة عزوبية من وزارة الداخلية، والتي عادة ما تصدرعن المحكمة الدينية، حيث طلب الموظف منه تسوية الموضوع مع المحكمة الشرعية. ولما أصرّ هذا المواطن على أن شطب المذهب جاء بناءً على قرار وزاري لا مجال للمساومة حوله، بحكم أن أي قرار من هذا القبيل ينبغي أن تتحمل الدولة تبعاته، عاد وأقرّ الموظف أن بإمكان المواطن الحصول على هذه الإفادة من وزارة الداخلية أو مأمور النفوس.
هذه القضية تثبت أن العراقيل التي يشجعها موظفو المحاكم الشرعية (الموبوءة بالفساد أكثر من المحاكم المدنية)، ما هي الا عراقيل صورية هدفها تيئيس كل من أراد الخروج من قمقم الطائفة الى رحاب الوطن.
في أي حال، يبدو أن تقسيم الوظائف في لبنان ظهر بصورته الحالية منذ العام 1920 بتوجيه من الاحتلال الفرنسي وبالتوافق مع القوى العظمى آنذاك، حين قررت الحكومة اللبنانية الخاضعة لسلطة المندوب السامي الفرنسي تعيين لجنة إدارية في دولة لبنان الكبير تقوم مقام مجلس الإدارة حتى يُصار الى إنهاء الإحصاء وإجراء انتخابات. تقسيم قام على أساس طائفي فحدّد للجنة ستة أعضاء من الموارنة وأربعة من السنة واثنين من الشيعة وعضوين من الروم الأرثوذكي ومثلهما من الروم الكاثوليك وعضو واحد من الدروز.
وعلى هذا الأساس استمرت لعبة المحاصصة الطائفية في كل دوائر الدولة بدءاً من رئاسة الجمهورية وصولاً حتى أدنى درجة من الدرجات الوظيفية. ففي 12 تموز سنة 1943، بعد نيل لبنان استقلاله، صدر القرار 312، الذي قضى بتوزيع عدد المقاعد في البرلمان على الطوائف. وظهرت الصبغة الإنتدابية من خلال ظهور حرفين FC الى جانب رقم القرار.
وفيما شهد لبنان حرباً ضروس بسبب هذه الطائفية وخصوصاً الامتيازات التي منحها القانون اللبناني الانتدابي للموارنة، جاء اتفاق الطائف ليزيد طين التخلف بلّة رغم انه أقر المادة 95 التي تقضي بتشكيل هيئة عليا مؤلفة من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس مجلس الوزراء لوضع آليات بغية الغاء الطائفية السياسية من الإدارات والوظائف العامة، بدءاً من المناصب العليا.
وفيما لحظت التعديلات الدستورية بعد الطائف مسألة الطائفية السياسية وأوصت بمعالجتها، كان التطبيق مخالفاً تماماً لروح هذه التوصيات، لذلك درجت مقولة أن الطائف كرّس الطائفية بعدما كانت عرفاً، فأصبحت قانوناً.
فالمادة (95) (المعدلة بالقانون الدستوري الصادر في 9/11/1943 وبالقانون الدستوري الصادر في 21/9/1990)، تنيط بمجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية. مهمة الهيئة دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلسي النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية.
وفي المرحلة الانتقالية:
أ- تمثل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة.
ب- تلغى قاعدة التمثيل الطائفي ويعتمد الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني باستثناء وظائف الفئة الأولى فيها وفي ما يعادل الفئة الأولى فيها. وتكون هذه الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين من دون تخصيص أية وظيفة لأية طائفة مع التقيد بمبدأ الاختصاص والكفاءة.
والمفارقة أن من ذكّر بهذه المادة الأسبوع الماضي كان رئيس مجلس النواب نبيه بري المفترض ان يكون المبادر للبدء بوضع آليات التطبيق.
ومنذ 22 عاماً توزع المناصب السياسية والادارية على قاعدة “6 و 6 مكرر”، في حين أن المادة (12) من الدستور تقول بأن لكل لبناني الحق في تولي الوظائف العامة لا ميزة لأحد على الآخر إلا من حيث الاستحقاق والجدارة حسب الشروط التي ينص عليها القانون.
كما تنص على وضع نظام خاص يضمن حقوق الموظفين في الدوائر التي ينتمون إليها.
في المقابل تكرّس المادتان (9) و(10) حقوق الطوائف وهيئاتها الشرعية والإدارية، أو ما يمكن تسميته بالسلطات الدينية. فالمادة (9) من الدستور اللبناني تنص على أن “حرية الاعتقاد مطلقة والدولة بتأديتها فروض الإجلال لله تعالى، تحترم جميع الأديان والمذاهب وتكفل حرية إقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها على أن لا يكون في ذلك إخلال في النظام العام، وهي تضمن أيضاً للأهلين على اختلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية”.
أمّا المادة (10) فتقول إن “التعليم حر ما لم يخل بالنظام العام أو ينافي الآداب أو يتعرض لكرامة أحد الأديان أو المذاهب ولا يمكن أن تمس حقوق الطوائف من جهة إنشاء مدارسها الخاصة، على أن تسير في ذلك وفاقاً للأنظمة العامة التي تصدرها الدولة في شأن المعارف العمومية”.
وللتعليم الديني ومؤسسات الطوائف الدور الأكبر في تعميق الانقسام بين اللبنانيين وترسيخ ذهنية التكفير لدى النشئ الجديد، بينما تبدو المصالح الدينية وحقوق الطوائف بمثابة مسمار جحا داخل الدولة، وما لم يصل الشعب الى قناعة بمدى ضرر هذا المسمار وتشويهه لجدار الدولة العصرية، سيبقى لبنان بلد الطوائف الذي ينظّم ليس فقط الاختلافات بل ايضاً الكراهية والحقد بصورة قانونية بين أبنائه.