اللبنانيون يكتوون بنيران الغلاء
تسير في الشارع. تنتقل في سيارة أجرة. تجلس ضمن مجموعات في المنزل أو على طاولة أحد المقاهي أو حتى على مقعد خشبي في احدى الحدائق اللبنانية. لا شيء سيتبدل. فهمهمات الأصوات الصادرة جميعها تتحدث عن أزمة واحدة. الغلاء المعيشي غير المحتمل.
سائق سيارة الأجرة لا يكف عن التذمر من سعر صحيفة البنزين التي وصلت إلى أربعين ألف ليرة (26.6$) بفعل ضرائب الدولة اللبنانية التي تقترب من 30% من ثمنها. وهو واقع جعل أبو أحمد يعمل ليلاً نهاراً، عله فقط يستعيد ما دفعه من مال. ووصل سوء الأوضاع بأبي أحمد إلى القول “زوجتي باتت تتمنى أن تشتم رائحة الألف ليرة (0.66 $)”، قبل أن يستفيض في شرح وسائل التقشف التي يعمد إليها بالتعاون مع زوجته للتغلب على مصاعب الحياة.
عندها، لا يتوانى أبو أحمد عن اخبارك أنه بات يلجأ لشراء ربطة الخبر، المحدد سعرها رسمياً بألف وخمسئة ليرة (دولار واحد)، والمهدد بسبب طمع التجار وتساهل الدول بالارتفاع إلى الفين، بسعر أقل من أحد الأفران العشوائية ضارباً بعرض الحائط موضوع السلامة الغذائية وصحة أفراد عائلته ما دام عدد الأرغفة التي في الربطة أكثر وحجمها أكبر.
أما لائحة الطعام، فاللحوم ليست من ضمنها على الاطلاق. وهو استبعاد لا يعود على الاطلاق إلى فضيحة اللحوم الفاسدة التي انتشرت في الآونة الأخيرة بل إلى سعر كيلو اللحمة الذي لا يقل عن 12 الف ليرة ليصل النوع الجيد منه إلى أكثر من 15 الف (10$). ولذلك فإن خيارات عائلة أبو أحمد في الطعام محدودوة تتراوح بين المجدرة بأنواعها المختلفة، البرغل والمعكرونة، وفي بعض الأحيان الخضار التي لم تسلم بدورها من ارتفاع جنوني في أسعارها.
حال أبو أحمد لا يختلف كثيراً عن أصحاب الوظائف الثابتة. فهؤلاء أيضاً يشكون مرارة أحوالهم. يقول فؤاد، الذي يعمل في احدى المؤسسات الحكومية، “راتبي بالكاد يكفيني لأول أسبوع من الشهر”. ويضيف متنهداً “أن تمضي حياتك في العمل، وأنت لا تستطيع الادخار فيمكن أن لا تحزن اذا ما كنت تستطيع أن تؤمن متطلبات أسرتك الشهرية. لكن أن يصل بنا الحال إلى أن نرى أنفسنا منذ الأسبوع الأول عاجزين عن تأمين متطلبات أطفالنا، فهو أمر يفوق طاقتي على التحمل. ولذلك غالباً ما الجأ إلى الاستنادة”. وتلك لها وجوه متعددة في المجتمع اللبناني.
هيفاء ربة أسرة لا يتعدى راتب زوجها الشهري المليون وخمسئة ألف ليرة لبنانية (1000$) في بلد يبلغ فيه الحد الأدنى للأجور 800 الف (533$)، تتحدث عن لائحة مدفوعات شهرية ثابتة لأسرتها، بدءاً من أقساط مدارس الأطفال في المدارس الخاصة وباصات نقلهم فضلاً عن مصروفهم الشهري الذي لا بد منه. كذلك، تتحدث هيفاء عن فاتورة الكهرباء، التي رغم انقطاعها المتكرر في لبنان لا تقل لدى كثير من الأسر عن 75 ألف (50$). وإلى جانب الكهرباء، تعدد لائحة مدفوعات أخرى، بينها مياه الشرب بسبب سوء نوعية المياه التي تصل إلى المنازل، المحروقات للسيارة. أما الأكل والشرب، فالحيلة التي تلجأ اليها هيفاء على غرار العديد من اللبنانيين هي الاستدانة من البقال والجزار على أن تسدد لهم الفاتورة في بداية كل شهر.
وعند السؤال عن امكانية تخفيض النفقات، يصب هيثم، الموظف في القطاع الخاص، جام غضبه على الدولة اللبنانية. فالدولة اللبنانية، تتحمل، من وجهة نظره، المسؤولية عن وجود “فاتورتين” عوضاً عن واحدة لعدد من الخدمات بينها الكهرباء التي يضطر هيثم لدفع فاتورة للدولة وأخرى لأصحاب المولدات الخاصة بسبب الانقاطع المتكرر للكهرباء في منزله. كذلك فاتورة المياه مضاعفة على الرغم من غياب الرقابة على المؤسسات التي تتولى توزيع المياه إلى المنازل. ويلفت هيثم إلى أنه لو كانت المياه التي تصلنا نظيفة فلا كنا بحاجة لشراء المياه، ولو كانت الدولة جادة في اصلاح أزمة الكهرباء لما كنا بحاجة أيضاً للمولدات.
أما ما يخفف عن هيثم، أنه استطاع قبل سنوات “النجاة” وادخار ما يكفي من مال لشراء منزل مستفيداً من عمله في الخارج لسنوات طويلة. ولكن حال هيثم لا تنطبق على آخرين باتت أسعار ايجارات الشقق تلتهم أكثر من نصف رواتبهم. وهو واقع تحدثت عنه منال بألم، راويةً أن البحث عن شقة للتملك باتت حلماً لا يقدر عليه كثيرون بعد أن وصلت أسعار الشقق إلى ارقام جنونية وخصوصاً في العاصمة بيروت وضواحيها في اعقاب حرب تموز. وتضيف، “لم يبق أمامي أنا وزوجي إلا خياران، إما أن نلجأ لشراء منزل في منطقة بعيدة نسبياً، وإن كان سعره أقل لكنه يبقى مرتفعاً، وإما أن نلجأ لخيار استئجار منزل على مقربة من العاصمة. ووفقاً لمنال، فإن الخيار الثاني كان الأنسب، بالرغم من أن ايجاد شقة للايجار بمواصفات مقبولة تتراوح بين 675 و825 ألف (450 و 550$)، وذلك بعد أن قامت وزوجها بـ”احتساب كلفة الاقتطاع الشهري الذي سيقوم به المصرف من راتبنا لقرض السكن، والمسافة البعيدة التي سنضطر كل يوم إلى قطعها وصولاً إلى عملنا في الصباح وفي أثناء العودة إلى منازلنا في المساء، فضلاً عن معضلة الفاتورتين اللتين سندفعهما، ومدارس الأطفال”.
أمام هذا الواقع، تكتفي منال بالقول: “الحياة بالنسبة لي باتت بلا طعم ولا لون”، وتضيف “عندما أفكر بالغلاء وأنظر إلى أطفالي أكاد أصاب بالجنون. فأي مستقبل لأولادي وأولاد العائلات الأخرى في ظل التخلي شبه التام للدولة عنا!”.