إميلي حصروتي
لوثة غريبة تصيب الزائر في بيروت، شيء ما في هواء هذه المدينة الملوّث ومائها الذي لا يشربه إلا المعدم من أهلها يتلبّسك ما إن تطأ قدماك شوارعها.. كدت أكتب ما إن تطأ قدماك أرصفتها، و لكن لا أرصفة هناك يا عزيزي إلا ما ندر.
الضجر في بيروت تمدّد وافترش طرقاتها المكتظة، فلا تغرّنك الإعلانات الشيّقة التي تصوّر سهرات المدينة المجنونة، ولا تتحرّق شوقاً لسحر شواطئها المترامية بين خزانات الوقود وجبال القمامة التي عصت عن أي حلّ. لا يا عزيزي، بيروت كما رأيتها في زيارتي الأخيرة بدت منهكة كامرأة أربعينية بانت على وجهها خيوط عنيدة تذكرها بكل المعارك التي لم تنج منها، فتجمّلت وحقنت وجهها بالمنشطات لتشرق من جديد فأوقعت بالفتى البريء وهزّ من ألفها رأسه أسفاُ.
إنها مدينة تسحبك إلى فقاعة سجن أكثر من مليون شخص نفسهم فيها، فقاعة فيها من الهشاشة ما لا يسمح لك برفع الصوت كي لا تفجرها ذبذبات نطقك للحقيقة. مدينة تبهرك بأضوائها التي تنيرها مولدات تحترق بنفط لا يستقرّ سعره عند حدّ وتشدّك نساؤها اللواتي يعشن كل يوم من أيامهن في توق هستيري ليغرفن ما تيسر من ظهور وتجميل.. هنا أيضا كدت أكتب جمال، و لكن نساء بيروت يؤمنّ بالتجميل وليس بالجمال الرباني، يشهد على كلامي هذا عدد معاهد التجميل المنتشرة كالفطر والمتخمة بنساء يقلمن أظافرهن وعينهن على شاشة ضخمة تبث آخر فيديو كليبات تحوّلت فيها المغنيات الى أيقونات للموضة والإثارة الرخيصة.
لا حدّ أقصى لطلب الجمال في بيروت، ولا شيء يمنعك من الحصول عليه بفضل القروض والتقسيط وغيرها من التسهيلات. الرجال أيضا انضموا إلى قافلة التجميل، فجلسات اللايزر لإزالة الشعر عن الكتفين والظهر صنعت الثروات لمن امتهن هذه المهنة. ما المشكلة في الشعر على الكتفين والظهر؟ أليس الشعر من علامات الرجولة؟ أتساءل في سرّي… لكن الرجولة أيضا خضعت للتجميل في بيروت. لم يعد الشاب اللبناني ذاك الرجل الذي ألفته قبل انتقالي الى الغرب، أصبح فيه شيء أكثر نعومة كي لا أقول أنوثة. فمن مشروبات الطاقة التي يتجرعها الى علب البروتينات التي يهضمها فالنبرة التي تدلّست وغاب عنها أي لون يدلك إلى أصولها… أهي لهجة بيضاء؟ ربما، تماما كالكذبة البيضاء التي يخبرك إياها من تلتقيهم ويجيبونك عند سؤالك عن أحوالهم: “ماشي الحال”.
لا، الحال ليس ماشيا يا أهل بيروت، يكاد منظر سائق تاكسي الذي مرّ يوما أمامي في شارع الحمرا أن ينطق كفراً وقد تدلى كيس مصل طبي من أعلى نافذة سيارته موصولا بيده التي على المقود، نعم فمعظم اللبنانيين لا يملكون ترف المرض والنقاهة كبقية الشعوب. الحال ليس ماشيا في ظل شرخ عمودي سياسي أرخى بظلاله على العيش الكريم للبنانيين. أتهاوى في مقهى جنب ماركة عالمية وأسأل من يجالسني عن آخر تطورات اللحوم الفاسدة المصادرة ثم نشرب القهوة ونجتر أحلاماً قديمة وذكريات مشتركة، لينتهي الحديث عند أمنية جليسي بالسفر الى أي مكان خارج لبنان.
بيروت يا بيروت… أكاد لا أحصي عدد شبانك الذين حصدتهم المخدرات ولا عدد المرات التي جاورت فيها سيجارة الحشيشة كأسي في حاناتك. هذه الحانات الغارقة في جوف أحياء سكنية هجرها أهلها كي استمتع أنا بعتبة لو نطقت لحكت قصص الحرب التي دمغت ناسك الى الأبد. لا جنس لمدينة بيروت بل الجنس لمدينة بيروت، الغواية في كحل العين، في اليد التي تمتد بدون خجل وفي النكتة التي تقطر ايحاءات جنسية والكلام المبطن الذي يجرف الجميع في تيار من لذة اصطناعية يتنشقونها مع دخان الاراكيل والسجائر والدواليب المحروقة.
ستقرأون ما كتبت عن بيروت اليوم و حالكم كحالي… متلهفين للزيارة القادمة.