معرض «القوّة» لمحمد بدر: تأنق الدم في نشوة الألم والتقاليد
إميلي حصروتي
جدلية الألم المقدس أو بذل الذات بشقّيها الروحاني والزمني هي من المواضيع التي طالتها الحداثة وأثّرت فيها عولمة المفاهيم الإنسانية فحوّلتها إلى نوع من محرّم اجتماعي يختار الكثيرون عدم الخوض فيه أو تجاهله تماما.
محمد بدر، شاعر وفنان فوتوغرافي لبناني، اختار بجرأة نادرة مقاربة هذا الموضوع فنياً ومحاربة الأحكام المسبقة التي تغلفه. بدأ بحثه في التيبت حيث كان شاهداً على طقوس الحرق العلنية للموتى ثم مرّ على عدد آخر من المناطق النائية يسجل فرادتها إلى أن اجتذبته في السنة الماضية مراسم ذكرى عاشوراء. في النبطية جنوب لبنان، جال بعدسته بين المئات من أتباع المذهب الشيعي وهم ينشدون الأناشيد الدينية التأبينية ويقومون بضرب صدورهم ويجرحون أنفسهم بخناجر أو سيوف ثم يجلدون أنفسهم بالسياط في رمزية لتأنيب الذات والتكفير عن إخفاقهم في نصرة الحسين. جَهدت كاميرته لتخزين أقوى اللحظات و تأطيرها من دون المسّ بما تحتويه من ثقل عقائدي وشعائري فأعطى هذا الجهد ثماره في معرضه الأخير «القـوّة»، المستمر في كاليري «أيـــام» في بيروت حتى 18 أيار/مايو الجاري. بدا محمد بدر مسترخيا مطمئنا لردود الفعل بعد اسابيع قليلة على بداية المعرض، فمن قمة سنواته الثلاثين تراه ينظر إلى العالم الذي يحيط به بنهم لا يغيب عن محدثه، حين تقف أمامه تجد نظراته المباشرة تبحث في تفاصيل وجهك لتنغرز في أعماقك بحثا عن زاوية أو ظل ضوء يراك من خلاله.
* ما هو معرض «القــوّة…» ومما يتكوّن؟
ـ المعرض هو عبارة عن تجربة فنية تتداخل فيها الوسائط التفاعلية على مختلف المستويات لتفتح أمام الزائر الفرصة لمخاطبة وقائع ذكرى عاشوراء كما عايشتها اثناء تصويري لمراحلها. هناك عشر صور فوتوغرافية مطبوعة بحجم كبير تُشعر المتفرج بقربه من الحدث، بالإضافة لعرضين تفاعليين حيث تتوالى في أحدهما الصور في نقل متسلسل للحياة والاحداث خلال مراسم عاشوراء أما الآخر فهو كناية عن مختارات من أقوال وأشعار حول معنى ومغزى القوة وهي أقوال لأدباء وشعراء ومفكرين من كل الأطياف. كذلك سيجد الزائر للمعرض نفسه بين تراكيب تمثل الأشخاص الذين أحاطوا بي أثناء التصوير و قد علق عليها صور صغيرة و أدوات استعملت خلال التطبير من سيوف و جنازير و غيرها.
* ما هي برأيك أقوى لحظات هذا المعرض لدى الزائر؟
– لأكون صادقا معك، هناك الكثير من مشاهد الدم في الصور المعروضة حتى أن بعض الزوار اكتفوا بالنظر من الباب قبل أن يسارعوا بالخروج، لقد صُمّم العرض بطريقة تضع الزائر في قلب ما كان يجري خلال مراسم عاشوراء. خلقنا غرفة معزولة عن باقي المعرض، قاتمة، يقف داخلها الزائر وحده أمام صورة شديدة الدموية حيث تُترك له الحرية في قضاء مدة مع نفسه بمواجهة تجربة الآخر الذي يحدق به ويدعوه للاقتراب من نشوته وفهمها، إنها من أشدّ تجارب هذا المعرض تأثيرا. هناك أيضا بطاقات طبع عليها كلمة القــوّة فيما يقوم الزائر بإضافة تكملة يراها مناسبة للتعبير عن مفهومه الخاص للقوة.
* ما كان شعورك أثناء تنقلك بين المشاركين في ذكرى عاشوراء؟ هل تأثرت شخصيا بمنظر الدم على وجوه الشباب و الأطفال و الشيوخ؟
ـ كانت تجربة جديدة بالنسبة لي و ملهمة من دون أدنى شك، دفعتني لطرح الكثير من الأسئلة على المشاركين، عن كيفية مجابهتهم للألم و استعداداتهم النفسية لمواجهته، أحببت ان أعرف الحالة الفلسفية و الإيمانية و الإنسانية التي تدفع بهذا الشخص للمجيء بملء إرادته لتحمل الندوب و الجراح في سبيل عقيدة مطلقة لا يحدّها فهمنا. كنت أسأل نفسي كيف سيستيقظ هذا الشخص غداً ليعود الى متابعة نشاطه اليومي و كأن شيئا لم يكن. من هنا برز لدي واقع القوة: قوة العقيدة، قوة الإيمان، قوة التقاليد، قوة الموروثات الاجتماعية و أدركت من خلال ما شهدت كنه الألم المقدس الذي يتحدى المنطق أحيانا.
* في بلد كلبنان يقاس فيه أي شيء بميزان الطوائف، كيف تلقى أتباع المذهب الشيعي عملك الفني؟ ـ دعيني أوضح أن التطبير في عاشوراء قد حرّمته غالبية علماء الشيعة في لبنان و بعض التيارات الشيعية دعت للتبرع بالدم في هذه المناسبة، لذا هي ليست ممارسة مرتبطة بالشيعة في لبنان بقدر ما هي مرتبطة بتقاليد شيعة أهل منطقة النبطية و إن كنا قد شهدنا مؤخرا تمدداً لهذه الظاهرة إلى منطقة خندق الغميق في بيروت.
* كيف هي ردود الفعل حتى الآن على عملك الفني من الناحيتين الإبداعية و التقنية؟
ـ كثر من زوار المعرض كانوا قادرين على الفصل بين الفكرة الدرامية للعمل و بين القيمة الفنية للمعروض، ثم أن التطبيق كان ناجحا جداً و متكامل، فالعرض على دمويته و قوة المَشاهد التي ينقلها أتى توثيقاً لطقس علني يمارس في أحد مناطق لبنان و لم أخترعه. لكن من مفارقات المعرض ما حدث مع ناقدة فنية زارتنا و لم تتحمل منظر الدم فخرجت و كتبت نقدا سطحيا بعيدا عن المعنى الاساسي لما يحمله هذا العمل. هنا أذكّر بالبطاقات التي طلبنا فيها من الزوار كتابة تعبير مرادف لكلمة القــوة لأني كنت متأكدا أن ردود الفعل ستكون مترددة و متفاوتة بحسب الفهم الخاص لكل شخص. أنا أؤمن أن الإنسان عدو ما يجهل لذا الدخول في فلسفة هذا المشروع هو جزء من غرضه أي تقريب الإنسان الحيادي من هذا الآخر عبر صدمة أردتها إيجابية.
* بالعودة إلى مجمل أعمالك الفوتوغرافية، نرى أنك تنقل حكايا و قصص حتى في أقصى التجريد الذي نجده أحيانا في بعض مشاريعك المبنية على لعبة الضوء و الظلال؟
ـ قد يكون هذا عائداً إلى شخصيتي كشاعر، فأنا دائما خلف مشهدية تخبر ما أرى، أتعامل مع كل صورة كأنها قصيدة فريدة و قلمي هو العدسة، فحين أسعى لتخليد مشهد ما أركز على نقل روح اللحظة في خطوة تستبق تكوينها التقني. فأنا مراقب شغوف بما أرى و أخصص الكثير من الوقت لتخمير مشاهداتي في اليومي من الحياة التي تدور حولي. بالنسبة للضوء ترينني أسعى اليه في كل فرصة و ضوء الشمس ملهمي إذ من الصعب إعادة إنتاج ظلاله و أطيافه اصطناعيا.
الجدير بالذكر أن كافة الصور في معرض «القــوة…» قد تمّ ترشيحها لدورة 2012 من جائزة «بيكتيه» العالمية للتصوير الفوتوغرافي. هذا و قد عُرف الفنان محمد بدر بمبادراته الفنية و الثقافية على مدى السنوات الماضية كابتكاره لمهرجان «لكم حمراؤكم و لي حمرائي» الذي يعد أول مهرجان للتصوير الفوتوغرافي المحترف في لبنان سنة 2009، ثم ابتكر و اشرف على مهرجان «موزاييك: مسابقة الاشرفية العالمية للتصوير الفوتوغرافي» سنة 2010 و قد مُنح في العام 2011 جائزة «عيش الاشرفية» الفخرية اعترافا بجهوده في المجتمع اللبناني.