نفّخ عليها تهتري
كثيراً ما يتباهى المدخّنون بسيجارتهم المشتعلة أو بنرجيلتهم ذات الأنبوب الطويل بالقول “نفّخ عليها تنجلي”، فيما الصحيح أن نتيحة هذا النفخ ليست سوى جلاءً للصحة عن جسم الإنسان وهروباً للعافية من المجتمع والبيئة المحيطة.
فإذا نفخ الانسان على الجمر يتجلى أكثر ويصبح أكثر فائدة للشواء أو للتدفئة، لكن الدخان الذي يدخل من الفم ويخرج من الأنف في عملية يظن الفاعل من خلالها أنها مفيدة وممتعة، لا يصدر عنه أي فعل تجليّ، بل يصبح المثل الأصح هنا: “نفّخ عليها تهتري”.
الغريب في الأمر أنه رغم كل التقارير التي تفيد عن حجم الأضرار الناتجة عن التدخين بكل أنواعه، لا يزال قسم كبير من البشر مدمناً على هذه العادة السيئة، بحجة عدم قدرته على تركها. والأنكى من ذلك أولئك الذين يدخّنون في أماكن مغلقة يعيش فيها أطفال أو مرضى أو أناس كانوا طبيعيين وأصبحوا مرضى بفعل التدخين السلبي.
الجمهورية اللبنانية “العظيمة” الذي يزايد فيها الطرفان المتصارعان على بعضهما ازاء بناء الدولة ومؤسساتها ومحاربة الفساد وما الى ذلك، وافقت بعد جهد جهيد على منع التدخين في الأماكن العامة، لكن مع وقف التنفيذ. فهذا القرار قد مر عليه شهور ولم نشهد أي غرامة سُجلت بحق مقهى أو مطعم من تلك المطاعم اللبنانية العابقة بسموم النراجيل والسجائر.
وفيما يتزايد عدد المرضى المصابين بأعراض التدخين، لا تزال بعض المسلسلات التلفزيونية والأفلام السينمائية تصوّر البطل المدخّن بصورة المفتخر بنفسه بما ينفثه من دخان في وجوه أعدائه، بل يتباهى بعض الأهل بوضع صور أطفالهم ممسكين بأنبوبة النرجيلة أو السيجارة على صفحات التواصل الاجتماعي، غير مدركين لخطورة هذا النوع من الترويج على مستقبل أطفالهم.
لا نريد الدخول في آفات المجتمع الأخرى التي باتت في لبنان ظاهرة مخيفة، مثل تزايد حالات الإدمان على المخدرات وتدخين حشيشة الكيف وتناول حبوب الهلوسة، خصوصاً بين الأطفال وطلاب المدارس، بل نكتفي بعرض بعض نتائج التدخين على الصحة العامة بحسب التقارير الطبية العالمية.
لقد أصبح هناك إجماع طبي وعلمي على أن التدخين يؤدي الى سرطان الرئة (نسبة الوفيات الناتجة عنه لدى المدخنين أكثر بـ23 مرة عنها لدى غير المدخنين)، اضافة الى العديد من السرطانات الأخرى (الفم والحنجرة والمرارة والبنكرياس والكلية و البروستات الخ..).
كما أن التدخين يزيد نسبة الوفيات بالتهاب القصبات وانتفاخ الرئة خمسة أضعاف، ويضاعف نسبة الإصابة والوفيات بأمراض القلب. ويزيد نسبة الحوادث الوعائية الدماغية (الشلل) بمقدار 50 في المئة، اضافة الى دوره في تضيق الشرايين المحيطية الذي قد يتطور إلى بتر الأطراف.
وبالنسبة للمرأة، ثمة خطورة كبيرة على صحة الجنين في المستقبل، فالتدخين يزيد من نسبة الولادات المبكرة ويساهم في ولادة أطفال قليلي الوزن لدى الأمهات المدخنات. وبحسب دراسات علمية شبه مؤكدة، إن أطفال المرأة المُدخنة لا يتمتعون بذكاء على غرار الأطفال الآخرين. كذلك يكون هؤلاء الأطفال أكثر عرضة للموت المفاجئ أثناء فترة الرضاعة.
ووفق دراسة حديثة أجراها باحثون من جامعة “كولورادو” في الولايات المتحدة الأميركية، فإن حظر تدخين السجائر فى الأماكن العامة له فوائد إيجابية كبيرة على صحة أفراد المجتمع، وخصوصاً السيدات الحوامل وأطفالهن.
وأشارت الدراسة إلى أن حظر التدخين كان له نتائج إيجابية فى تقليل معدل التدخين بين السيدات الحوامل، سواء بتقليل عدد المدخنات أو تقليل معدل دخان السجائر الذي يتعرضن له سلبياً، كما ساعدت سياسة الحظر فى تقليل عدد حالات الولادة المبكرة، والأطفال الخدج أو المبتسرين، وهم الذين ولدوا قبل مرور ٣٧ أسبوعا ًمن بداية الحمل (هذه النتائج وردت في مجلة “journal ýof ýwomen ýhealth”، أيار الحالي).
وفي روسيا، أعلنت وزارة الصحة والتنمية الاجتماعية هذا الأسبوع، أنها ستضع صوراً قاتمة تبرز مضار التدخين على صحة الإنسان على علب السجائر، في إطار حملة لمكافحة تلك الآفة ابتداء من العام المقبل.
أما عن خطورة ترويج هذه العادة المضرّة بالصحة في الدراما التلفزيونية العربية، فقد أكدت دراسة مصرية أن 71 ساعة ونصف من المسلسلات التي عرضت في رمضان الماضي، كانت تدور حول “المخدرات و التدخين.
ولعل من سلبيات المواجهة التي شهدها لبنان في السنوات الأخيرة بين معسكرين متخاصمين، أن الشباب كانوا ضحية أساسية في هذا الصراع، فلم يلتفت لهم أي من المسؤولين من كلا الطرفين. لهذا أصبحت عادة النرجيلة في حالة تزايد وسط الشبان الذين شعروا بالفراغ نتيجة تفرغهم للاستنفارات المذهبية في أحيائهم، فباتوا يقبضون رواتبهم الشهرية لقاء جلوسهم في الأحياء كالمتسكعين بحجة حمايتها من ابناء المذهب الآخر والمنطقة الأخرى. وكانت تسليتهم الوحيدة تلك النراجيل التي انتشرت بين اليافعين كالنار في الهشيم بدلاً من الكتب والصحف والأمور المفيدة.
واستغل تجار المخدرات هذه الظاهرة لـ”تلغيم” بعض النراجيل والسجائر بالحشيشة والمواد المخدرة من خلال اختراق المحلات التي تقدّم هذه السموم على كافة الاراضي اللبنانية من دون استثناء، وبذلك تضاعفت أعداد زبائنهم من النشئ الجديد الذي يتحمّل مسؤولية ضياعه كل شخص تبوأ موقع مسؤولية في هذا البلد بقطع النظر عن تياره السياسي أو طائفته أو منطقته او طبيعة مسؤوليته.
وربما كان الأجدر بالحكومة اللبنانية ان تنظر الى خطورة التدخين في الأماكن العامة بدلاً من الاستغراق في لعبة النكايات والكيدية التي يمارسها السياسيون باحتراف، فيما تغيب عن بالهم القضايا التي تشكل أسّ مهامهم، وفيما لو طُبّق قرار منع التدخين في الأماكن العامة فإن ذلك سيساهم في التقليل من حجم الأمراض وبالتالي تخفيف مصاريف وزارة الصحة والضمان الاجتماعي في مقابل زيادة حجم الواردات المالية إلى الخزينة من الغرامات ومن الضرائب التي ينبغي أن ترتفع على المستوردات من السجائر. وإلاّ فإن المثل الذي سيسود هو “نفّخ عليها تهتري”.