مفاوضات بغداد: الأزمة النوويّة في مناخات صعبة
رغم المناخات الإيجابية التي رشحت عن مفاوضات اسطنبول الشهر الماضي بين إيران ومجموعة الدول الست “5+1” بما يتعلق بتسوية مُرتقبة للملف النووي الإيراني المثير للجدل، ورغم إعلان المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية يوكيا أمانو، عن “اتفاق وشيك” لحل المسائل العالقة بين الجانبين، فشلت مفاوضات بغداد الأخيرة التي عُقدت يومي الأربعاء والخميس الماضيين، في التوصل الى الاتفاق على آليات عمليّة لحل الأزمة.
مفاوضات بغداد التي عُقدت في المنطقة الخضراء وسط العاصمة العراقية بين إيران من جهة والدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن إضافة الى ألمانيا من جهة أخرى، شكلت امتداداً واضحاً للجولة السابقة التي عُقدت منتصف نيسان الماضي في المدينة التركية الواقعة على البوسفور، من دون أن تحافظ على روح تلك الجولة، الإيجابية. فالأجواء الجميلة التي وفرّها مناخ المدينة الواقعة بين قارتين، أوحى بحل بعض العُقد، خصوصاً أن هذه الجولة أعادت طهران الى طاولة الحوار بعد نحو سنة من توقفه بسبب تمسك كل طرف بمواقفه الصلبة. لكن أجواء الفرات كانت على العكس حيث بدت الحلول صعبة.
فإيران كانت ترفض مراراً وتكراراً التنازل عن تخصيب اليورانيوم بنسبة 20 في المئة، وتعتبره حقاً مشروعاً لها لإنتاج النظائر المُشعة المُستخدمة في الأبحاث والعلاجات الطبية، فيما كان الغرب يُشدّد عقوباته ضدها مرة تلو الأخرى حتى وصل الى مرحلة أشد قساوة ان لم تكن مشلّة للقطاعين النفطي والمالي في الجمهوريّة الإسلامية. وأمام هذه العقوبات والتلويح الإسرائيلي الدائم بالحرب الاستباقية ضد إيران، كان الإيرانيون يحيكون سجادة الأزمة برويّة، مراهنين على عامل الوقت الضائع المُستنفذ في المفاوضات. فانتهت جولة اسطنبول بنتائج “ايجابية” على حد وصف الجانبين في نهاية الاجتماعات. بل ذهب الإيرانيون أبعد من ذاك، معتبرين أن هذه الجولة حققت “انتصاراً” آخر لدبلوماسية بلادهم، خصوصاً بعد موافقة مجموعة الدول الست التي تقودها منسقة الشؤون الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي كاثرين أشتون، على بغداد كمكان للمفاوضات التالية، فالعراق أصبح شبه خاضع للنفوذ الإيراني بعد انسحاب الاحتلال الأميركي نهاية العام الماضي.
انطلاقاً من هذه “الايجابية” استؤنفت مفاوضات بغداد الأسبوع الماضي، وسارت التحليلات الدبلوماسية باتجاه حل مُرتقب عزّز فرصه تصريح يوكيا أمانو، بعد زيارته النادرة الى طهران الاثنين الماضي، والتي وصفها بالإيجابية. الغربيّون لمسوا الإيجابية من خلال قبول طهران بالرجوع الى طاولة المفاوضات، وعوّلوا على رضوخها لمطلب وقف التخصيب بدرجة 20 في المئة، والسماح للمفتشين التابعين لوكالة الطاقة بزيارة موقع “برشين” العسكري الذي تشتبه الوكالة الدولية، التابعة للأمم المتحدة، بوجود نشاط نووي داخله، اضافة الى مطلب اقفال موقع “فوردو” للتخصيب قرب مدينة قم (جنوبي طهران)، كون هذا الموقع هو المكان النووي الوحيد الذي لا يمكن مهاجمته عسكريّاً بحكم وقوعه تحت جبل يحميه من القذائف الذكية والفراغية التي يمكن أن تُستخدم في ضرب مُفاعلات إيران.
أما مطلب طهران الأساسي فهو الاعتراف بحقها في تخصيب اليورانيوم، لتمكنها من امتلاك كمية مخصّبة كافية لانتاج الطاقة وللأبحاث الطبية، وبالتالي رفع العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة عليها اضافة الى العقوبات الآحادية التي فرضتها اميركا واستراليا وكندا والاتحاد الأوروبي.
بهذه الروحية جاء المتفاوضون الى بغداد يوم الأربعاء الماضي (23 ايار 2012)، بيد أن حساب البيدر لم يطابق حساب الحقل، ولم تساهم التطورات التي تزامنت مع الاجتماعات في حل المسائل العالقة، فرغم الاعلان عن قيام قوات البحرية الايرانية بانقاذ سفينة تجارية أميركية من القراصنة في بحر عمان، ورغم ما رشح عن دردشة ثنائية بين كبير المفاوضين الايرانيين سعيد جليلي ورئيسة الوفد الأميركي ويندي شيرمان، تحدثت كاثرين اشتون عن “اختلافات جوهرية” بعد الجلسة الرابعة. وبدا ان ه1ه الجلسة عُقدت ارتجالياً، في أعقاب الحديث عن فشل الجولات الثلاث التي سبقتها، من دون خروح اشتون وجليلي في مؤتمر صحافي مُشترك كما كان متوقعاً.
لذلك كان تصريح أحد المسؤولين الايرانيين في أعقاب المفاوضات واضحاً في التمييز بين جولتي اسطنبول وبغداد، قائلاً: “ما سمعناه في اسطنبول كان أكثر إثارة للاهتمام”.
المسؤول الذي رفض البوح بهويته اضاف: “نعتقد أن سبب عدم تمكن مجموعة «5+1» من الوصول إلى نتيجة هو أميركا.. جاءوا إلى بغداد من دون تفويض واضح، لذلك نعتقد أن المناخ صعب”.
إذن خرج الوفدان بخفي حنين، كما يقول المثل العربي، لكن الاختلافات الجوهرية لم تمنع الطرفين من المحاولة مرة ثانية، ففي الشهر المقبل ثمة جولة جديدة تستضيفها موسكو، لعلها تفكك الألغام التي تعيق الوصول الى مساحة مشتركة. وعلى ما يبدو أن الطروحات التي تبادلها الطرفان المتفاوضان في بغداد، قد أسست لرؤية جديدة، عسى ألاّ تكون فقط في مصلحة لعبة كسب الوقت، خصوصاً أن الجانب الغربي يتحضّر لجميع الاحتمالات، مع ملاحظة تمسك الجانب الأميركي بالموقف المتشدد تجاه إيران لأسباب تتعلق بالانتخابات الرئاسية في بلاده.
وقد يكون الاعلان عن جولة جديدة في موسكو، التي اقترحت سابقاً رؤية مختلفة لتخصيب اليورانيوم خارج ايران، هدفه امتصاص حدة الاحتقان الذي تشيعه الدولة العبرية، كل ساعة بساعتها، في مناقشة موضوع الضربة العسكرية. وقد يدعم هذا الهاجس بقوة ما كشفته صحيفة «الغارديان» الخميس الماضي (24 ايار 2012)، من أن مسؤولي الدفاع البريطانيين يضعون على مضض خططاً للمشاركة في مواجهة محتملة تقودها الولايات المتحدة وإسرائيل ضد إيران بسبب أسلحتها النبرنامجها النووي.