لا يشتعل لبنان إلا بفتيل بيروتي !
القتال الذي دار ويدور كل فترة في طرابلس أصبح جزءاً من المشهد اللبناني واعتاد عليه اللبنانيون على تعدد طوائفهم ومشاربهم. حتى موت الشيخ عبد الواحد على حاجز للجيش اللبناني ليس كفيلاً بإشعال الساحة اللبنانية، إنما القتال الذي دار في الطريق الجديدة، حتى وإن كان ما بين أبناء الطائفة الواحدة، فهو كفيل بأن يُغرق الساحة اللبنانية في بحر من الدماء.
للمرة الثانية نشهد على محاولة فاضحة لإشعال الساحة اللبنانية إنطلاقاً من شوارع بيروت. لِمَ قلت للمرة الثانية مع التركيز على العاصمة بيروت بالرغم من تكرر الحوادث التي باتت يومية لسوء حظ والتي تغطي الأراضي اللبنانية كافة؟ لسبب بسيط ألا وهو أنه، مهما كانت الأحداث وإن ترجمت بقتال في شوارع وقصف كما في طرابلس ما بين التبانة وجبل محسن، فإنها لا تؤجج الساحة اللبنانية بالرغم من خطورتها على أكثر من صعيد.
قبل التكلم عن ما جرى في الطريق الجديدة، أود العودة إلى المحاولة الأولى والتي لا تتمثل في حوادث السابع من أيار عندما أحكم حزب الله وحلفاؤه قبضتهم على العاصمة اللبنانية. ذلك لسبب بسيط إذ أن المعركة حُسمت بطريقة سريعة بحيث لم يُتح للفريق المهاجم المجال أمام إطالة أمد القتال وتحوله إلى حرب أهلية.
المحاولة الأولى تتمثل في المواجهة التي أودت بحياة مسؤول في حزب الله على يد عناصر من جمعية الأحباش المعروفة بإنتمائها وبتوجهاتها، هذه الحادثة كانت كفيلة بإشعال مواجهات ما بين السنة والشيعة في لبنان إن لم يتم إحتوائها من قبل قيادة حزب الله. علماً أن هذه الحادثة وصفها رئيس كتلة حزب الله النيابية محمد رعد “بسيناريو لحربٍ أهلية”.
الذي دفعني إلى المقاربة ما بين الحادثتين وإن في الظاهر لا شيء يجمعهما، هو توجهات الفريقين اللذين هما في صلب الحادثتين. جمعية الأحباش معروفة المنشأ والمشرب. فهي جمعية أنشئت من قبل المخابرات السورية في ثمانينيات القرن الماضي وما تزال مقربة من النظام السوري، حتى أنه بعد الحادث المذكور أعلاه توجه عدد من قيادييي الجمعية إلى دمشق لملاقاة وفد من حزب الله للمصالحة.
حادثة الطريق الجديدة نجمت عن مقتل الشيخ عبد الواحد برصاص الجيش اللبناني، وهو من أكثر المتحمسين للثورة السورية، وعن إعلان شاكر البرجاوي عن تنظيمه مهرجاناً شعبياً دعماً للنظام السوري، هو الذي كان في عديد تيار المستقبل ابان أحداث السابع من أيار، بل أكثر من ذلك فاخر البرجاوي على شاشات التلفزة بدفاعه عن الطريق الجديدة ابان هذه الأحداث، وهو الذي إتهمه تيار المستقبل عام ٢٠٠٦ في الوقوف وراء “غزوة الأشرفية”.
إذا،ً أحداث بيروت لها وقع أكبر بكثير من أحداث طرابلس وإن كانت أحداث عاصمة الشمال أعنف وأكثر دموية. تأتي هذه الأحداث بعد تأزم الوضع في الشمال وبعد تهديد رفعت عيد، رئيس الحزب العربي الديمقراطي، بدعوة الجيش السوري إلى الدفاع عن علويي لبنان. ذلك بعد زيارة مكوكية لجيفري فيلتمان تلتها زيارة لأحمد جبريل وهما زيارتان تخبئان أكثر من رسالة خصوصاً عندما تليهما دعوات أكثر من بلد عربي إلى مواطنيه بعدم زيارة لبنان ومن بين هذه البلاد قطر وسوريا، اللاعبان الأساسيان على الساحة اللبنانية والسورية على حدٍ سواء.
كل ذلك في ظل عمليات الخطف المتبادل التي تكررت على الحدود اللبنانية السورية وتوجت بإختطاف الحجاج اللبنانيين العائدين من إيران براً على يد مسلحين من المعارضة السورية نفت قيادة الجيش السوري الحر إنتماءهم لها.
هذه العملية في ظل الوضع الراهن كان من الممكن أن تكون لها تداعيات وخيمة على الساحة اللبنانية بسبب الإحتقان القائم. إنما عملية الخطف هذه أدت إلى تضامن ساسة لبنان لإخراج الحجاج من ورطتهم، توجهوا جميعاً إلى المطار لملاقاتهم وبعث رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري بطائرة خاصة لنقلهم من تركيا إلى لبنان. لكنهم تأخروا بل لم يصلوا وتضاربت الأخبار عن مكان وجودهم بل وعن وصولهم أو عدمه إلى الأراضي التركية.
من أسباب عدم وصولهم إلى تركيا نسبت لعدة مصادر هو إستنفار الجيش السوري على الحدود التركية. فإن القيادة السورية لا بد أنها ستحاول إفشال هذه العملية لأسباب عديدة وأولها هو أن هكذا عملية تبرهن عن إنفلات الحدود وعن ترهل قبضة الأسد.
هذه الحادثة أدت أيضاً إلى تضامن وإن كان شكلياً ما بين القيادات السياسية اللبنانية في مرحلة سمتها الأولى هي التشنج والتناحر الطائفي، مما لا يناسب حسابات الكثيرين. السؤال الآن هو التالي: هل ستكون القيادات اللبنانية على قدر من المسؤولية يوازي دقة الوضع الراهن في المنطقة، أم أنها ستنزلق مرة أخرى في أتون حربٍ أهلية لا تحمد عقباها.
ذلك علماً أن هذه القيادات نفسها لم يكن لديها من الحنكة والدهاء السياسي ما يكفي لتستفيد من فرصة تاريخية في تاريخ لبنان والمنطقة، حيث كل المتدخلين في الشؤون اللبنانية مشغولون في بلادهم ومشاكلهم. كانت فرصة اللبنانيين أن يحكموا ولو لمرة من دون التدخلات الخارجية. لكنهم فوتوا عليهم الفرصة بسبب ضيق صدورهم وقصر نظرهم. هذه الفرصة فاتتهم وها هو لبنان يعود ساحة لتناحر الدول في لعبة أكبر من مصالح ساستنا.
نتكلم عن الساسة وننسى الشعب، رغم أن هؤلإ الساسة من هذا الشعب. شعبٌ فريدٌ من نوعه، فيتقاتل اللبنانيون في شوارع مدنهم لأسباب جيوستراتيجية، مع أو ضد محور الممانعة، ضد المشروع الأميركي للشرق الأوسط، لوقف المد الإيراني، لكنهم لا يتحركون ساكناً من أجل الماء والكهرباء وسعر صفيحة البنزين وربطة الخبز. سيناريوالحرب نفسه مع أوضد اللاجئين… العناوين تغيرت، إنما بذور الخلاف ما زالت تنثر وتثمر ما بين اللبنانيين في ظل نفس السماء… ونفس الأسماء.