(S-K) ساركوزي – القذافي: الصيّاد والطريدة
جوزيف كيروز
هذا المقال يحاول إضاءة بعض الزوايا المعتمة في العلاقات الملتبسة بين الرئيس الفرنسي، نيكولا ساركوزي، والزعيم الليبي معمّر القذافي. علاقات بدأت “حميمية” وانتهت دموية بسقوط النظام الليبي ومقتل خمسين ألف مواطن ليبي بريء. وقد اعتمدت في إعداد هذا المقال على معلومات نشرتها الصحافة الفرنسية طوال ستّ سنوات، وهي عمر هذه العلاقات. كما أنني أفدت من معلومات وردت في كتابين صدرا هذا العام، وهما: “جمهورية الحقائب”، لمؤلفه بيار بيان _ منشورات فايار؛ و”أسلحة الفساد الشامل” لمؤلفه جان غينيل _ منشورات لاديكوفارت. والكتابان لا يأتيان على ذكر القذافي أو غيره من قادة الدول إلاّ في معرض كشف حجم الفساد السائد في فرنسا السنوات الأخيرة.
“الممرّضات الليبيات”
يعتقد كثيرون خطأ أن العلاقات بين ساركوزي والقذافي نشأت لمّا تصدّى الأول متبرّعاً لحلّ مشكلة الممرضات البلغاريات المعتقلات مع طبيب فلسطيني في السجون الليبية منذ ثماني سنوات بتهمة حقن أطفال ليبيين بمرض الإيدز. يومئذ، أي بتاريخ 6 أيار/مايو 2007، كان ساركوزي، وقد أصبح لتوّه رئيساً للجمهورية الفرنسية، فرغ من مخاطبة المواطنين في مناسبة انتخابه، فعطف فجأة على موضوع الممرضات قائلاً: “ستقف فرنسا إلى جانب الممرضات الليبيات المسجونات منذ ثماني سنوات”. طبعاً، هو يقصد الممرضات البلغاريات، لكنه قال: الليبيات. “زلّة اللسان”، هذه، لها دلالاتها كما يزعم المشتغلون بعلم النفس، إلاّ أنّ دلالاتها السياسية ستكون الأبرز.
أصدقاء ساركوزي – وهو درج على استخدام تعبير “أصدقائي” للاشارة الى من يساندونه ويمشون في خطّه السياسي – يتحدثون، عند الكلام على “زلّة اللسان” هذه، عن “معاناة” الرئيس وصراعه الداخلي بين الالتزام بالدفاع عن مبدأ حقوق الإنسان، وهو أحد شعارات حملته الانتخابية، والتسليم بالسياسة الواقعية التي تقضي بأن يجلب المال إلى فرنسا عبر عقود يوقعها طرف آخر، حتى لو كان هذا الطرف يدعى القذافي…
أما الذين لا يمكن وضعهم في خانة أصدقائه، وهم ليسوا بالضرورة خصومه، فرأيهم أن ساركوزي، وهو ليس ممّن يقرنون القول بالفعل، عوّل منذ اليوم الأول لانتخابه على ليبيا وعقيدها البائس للحصول على العقود الضخمة التي ستضخّ دماً جديداً في شرايين الاقتصاد الفرنسي المتصلّبة، لادراكه أنه يستهلّ عهداً عشية أزمة مالية واقتصادية لن ينجو منها بلد متقدّم واحد في العالم. وأصدقاؤه عندهم الخبر اليقين عن الأمر كلّه. فلا بدّ إذاً من طريدة سمينة يتقوّت عليها الاقتصاد الفرنسي في سنواته العجاف، وقد راح يرزح أكثر فأكثر تحت وطأة الديون. وقبل هذا وبعده، ساركوزي عازم على البقاء في الحكم، ولن يتمّ له التجديد خمس سنوات إضافية من غير إنجاز اقتصادي معقول. وتشاء الظروف الملائمة في لحظات سانحة أن يقع الصيّاد على طريدة سمينة، وكانت معمّر القذافي.
تعاون أمني وثيق
بدأت العلاقات بين ساركوزي والقذافي قبل أن يذكر الأول الممرّضات البلغاريات في خطابه مساء انتخابه بأربع سنوات. وساركوزي نفسه يقول في تصريح له في كانون الأول/ ديسمبر 2007: “أستطيع أن أشهد على التعاون بين الأجهزة الفرنسية والأجهزة الليبية خلال السنوات الأربع التي كنت فيها وزيراً للداخلية” (تسلّم وزارة الداخلية مرتين، بينهما فاصل زمني قصير أمضاه وزيراً للاقتصاد).
وفور عودته ثانيةً الى وزارة الداخلية، في أيار/مايو 2005، قرّر ساركوزي أن يتصل بالنظام الليبي مستفيداً من خروج القذافي من حصار دولي طويل. كثيرون حاولوا أن يثنوه عن المغامرة بصداقة مع عقيد متقلّب المزاج وغريب الأطوار، يقرّر أمراً في الصباح ويعدل الى نقيضه في المساء. ومن ثمّ فالرجل عدوّ لفرنسا، سبق له أن خاض ضدّها حرباً في التشاد، ومخابراته متورطة بتفجير طائرة “أو ت أ” التي أودت بحياة مئة وسبعين إنساناً 1989، إلاّ أنّ ساركوزي كان قد حسم أمره في اتجاه علاقات وطيدة، ليس لأنه اقتنع بتغيير في سلوك العقيد، وإنما ليقينه من انعدام قدرته على معاودة ما سبق أن فعله طوال سنوات من تمويل الحركات الإرهابية حول العالم وتفجير الطائرات المدنية وتكديس أسلحة الدمار الشامل… لقد بات منذ اوآخر 2003، على أثر ضبطه بالجرم المشهود، أي محاولة إقامة مشروع نووي بمساعدة الباكستاني عبد القادر خان، قطّاً بلا مخالب. فلا بأس إذاً من انتهاز فرصة إعلان توبته أمام الجميع لملاقاته في منتصف الطريق. ولعلّ ما شجّع ساركوزي على المضي في عقد صداقة مع القذافي شعوره بأنه تأخّر قليلاً في صياغة مشروعه المستقبلي مع العقيد. فها هو طوني بلير يسبق الجميع ويزوره في خيمته في آذار/ مارس 2004، ماحياً جريمة لوكربي (1988) من سجل العقيد الأسود. وتبعه برلوسكوني عارضاً خدماته على أنواعها… فالرئيس جاك شيراك شخصيّاً في تشرين الثاني/نوفمبر من العام المذكور.
كفى تضييعاً للوقت. لا بدّ من الاتصال فوراً بالقذافي، فأُرسل زياد تقي الدين، رجل الأعمال “الفرنسي- اللبناني”، كما تطلق عليه الصحافة الفرنسية، على وجه السرعة الى طرابلس للوقوف على طلبات الزعيم الليبي. ولم تمضِ أيام معدودة حتى كان مدير مكتب وزير الداخلية، كلود غيان، في ذلك الحين، يستقبل مبعوثين رسميين ليبيين. أما غرضهم، بحسب التقارير الرسمية، فكان “التعاون الجاد في جميع ميادين الأمن”.
ساركوزي والفريق العامل معه على توطيد العلاقة بنظام طرابلس، أسعدهم نجاح الخطوة الأولى، وتيقنوا من أنّ فرنسا ستكون الصديق الثالث، بعد الولايات المتحدة وبريطانيا، في لائحة أصدقاء العقيد الجدد. والدليل على ذلك اتفاق الطرفين، الليبي والفرنسي، على اعتبار “الإسلام المتطرف” هو العدو الأول والأخير الذي ينبغي دحره. ولبلوغ هذا الهدف لا سبيل غير “التعاون الأمني الوثيق”، على غرار التعاون القائم منذ مدّة بين “السي.آي.إي” والمخابرات البريطانية “إم آي 6” والمخابرات الليبية.
زيارات سرّية
لم تكن أخبار هذا التعاون الأمني بين الأجهزة المذكورة قد شاعت، حتى في الأوساط الصحافية، قبل أن تكشف، منذ فترة وجيزة، عن أبعادها بعض الصحافة الأميركية. وهنا، يصحّ السؤال عن مصير أرشيف العقيد القذافي: هل أتلفه؟ هل حمله معه في هروبه؟ أم هل وضع المجلس الانتقالي يده عليه؟ إذا سلم هذا الأرشيف، أو حتى بعضه، وأتيح الاطلاع على محتواه فإنّ أسئلة كثيرة، محيّرة وملتبسة، ستجد أجوبتها.
وفي أي حال، بتنا نعلم اليوم، بفضل “لوموند” أنّ جهاز “دي إس تي” طلب من “جيوس”، الشركة الفرنسية المتخصصة في تدريب عناصر أمنية، أن تتولى تأهيل “القوّات الخاصة الليبية” منذ 2005. وفي نهاية 2009، أقرّ كلود غيان، في مقابلة مع “لو نوفيل أوبسرفاتور”، بأنه التقى مرتين أو ثلاث في مكاتب وزارة الداخلية موسى كوسا، المسؤول عن المخابرات الليبية في ذلك الوقت. هذا في حين تقوم مخابرات القذافي بمساعدة أجهزة غيان وزملائه في “سي آي إي” و”إم آي 6″ البريطانية بمطاردة معارضي النظام الليبي وزجّهم في أقبية التعذيب الجهنمية. وعلى هامش هذا “التعاون الأمني الوثيق” بين الفرنسيين والليبيين، ازدهرت الصفقات المالية بين الطرفين، إذ أوصى السيد غيان ببيع الليبيين معدّات تنصّت على المكالمات الهاتفية. فسارعت شركة “أميزيس” الفرنسية لتلبية طلب مدير مكتب الوزير. وظفر السيد تقي الدين بهذه الصفقة مقابل ترتيب زيارة لغيان إلى بلاد العقيد.
والغريب في هذه الزيارة، كما ذكرت بعض الصحف الفرنسية، أنّ اليد اليمنى لساركوزي تباحث مع ذوي الشأن الليبي في صفقات لا تدخل في نطاق اختصاص وزارة الداخلية، بل وزارة الدفاع.
لأيّ غرض ذهب غيان إلى ليبيا؟ هذا السؤال راج وقتاً في عدد من الصحف الفرنسية من غير أن يتمكن أحد من العثور على الجواب الشافي. هل تكون زيارة غيان بغرض جلب المال لحملة ساركوزي الانتخابية؟ سيف الإسلام القذافي قال، في مقابلة تلفزيونية يوم 16 آذار/مارس المنصرم، أي قبل قليل من بدء هجمات طائرات “رافال” و”ميراج” الفرنسية على أهداف العقيد العسكرية: “نحن الذين موّلنا حملته الانتخابية، وإننا نملك الدليل!”. غير أنه لم يقدّم الدليل. فهل يملك القذافي أو ابنه الدليل حقّا؟ ولماذا يحجمان عن إبرازه أمام العالم؟ ولا أظنّ أنهما يجهلان نقطة أساسية على الأقل في قانون الانتخابات الفرنسية الذي يعتبر تمويل الحملات غير الشرعي تزويراً صريحاً لنتائجها. ولو وجد الدليل الذي لوّح به سيف الإسلام لكان ذلك بمثابة إعدام سياسي لساركوزي بلا أدنى شكّ.
آمال وخيبات
عندما انتقل ساركوزي من “بلاس بوفو” إلى الإليزيه، حمل معه، في ما يخصّ ليبيا، مشروعين استراتيجيين طويلي الأمد وثالثاً “ثانوياً” مردوده سريع. أما المشروعان الأولان فهما: “الاتحاد من أجل المتوسّط” الذي عمل له دعاية صاخبة خلال عامه الرئاسي الأول؛ والآخر هدفه الارتقاء بالعلاقات الفرنسية- الليبية إلى مستوى “الشراكة الاستراتيجية” على غرار ما كان يطمح إليه شيراك مع الجزائر ولم يعطِ نتيجة تذكر؛ أما المشروع الثالث فهو إطلاق سراح الممرّضات البلغاريات والطبيب الفلسطيني. ولمّا كان ساركوزي على علم بتفاصيل المفاوضات التي كانت تجريها الحكومتان الألمانية والإيطالية مع القذافي على أمل أن تفوز إحداهما بسبق التحرير (وبالمناسبة نشير إلى أن إيطاليا وألمانيا هما أكبر شريكين تجاريين في أوروبا لليبيا)، لم يجد بدّاً من العثور على وسيط ثالث بينه وبين القذافي، فكان الوسيط أمير قطر، حمد بن خليفة آل ثاني، وكان ثمن “الصفقة” أن توجّه فرنسا دعوة إلى القذافي للقيام بزيارة دولة.
يوم 24 تموز/ يوليو2007، كانت سيسيليا، زوجة ساركوزي سابقاً، وكلود غيان في طرابلس للاحتفال بإطلاق الممرضات والطبيب والعودة بهم إلى باريس. وفي اليوم التالي، حلّ ساركوزي ضيفاً على القذافي ليشكره ويوقّع معه عدداً كبيراً من الاتفاقيات الأولية في ميادين تجارية وثقافية عدّة. ولكنّ هدف ساركوزي كان الشروع في تأسيس “الشراكة الاستراتيجية” مع مضيفه. وتقضي هذه الشراكة، كما كان يريدها الرئيس الفرنسي، أن تقوم شركة “أريفا” ببناء مفاعل نووي للأغراض المدنية في ليبيا، وأن تشتري الأخيرة اثنتي عشرة طائرة مقاتلة فرنسية من نوع “رافال”. واستمع القذافي إلى شرح التقنيين ومدائح السماسرة من غير أن يبدر منه أدنى اعتراض، مكتفياً بترداد عبارة “إن شاء الله”، بحسب ما نقل أحد أعضاء الوفد الزائر إلى الصحافة الباريسية.
وإذا كان القذافي قد التزم الصمت حيال ما عرضه عليه الفرنسيون، فلأنه لا يريد أن يشتري منهم إلاّ ما يرغب في شرائه، ولأنه، أيضاً، لا يودّ أن يعطّل زيارته الباريسية المرتقبة، وما تمثله من تكريس دولي لخروجه من الحصار الطويل، لعلمه أن باريس توفر له منبراً أقوى دعاية من منبر في روما أو برلين.
جاء العقيد إلى باريس في كانون الأول/ ديسمبر 2007، ونصب خيمته في حديقة قصر مارينيي، قبالة الإليزيه. كان الطقس سيّئاً جدّاً. وكانت ردّة فعل السياسيين الفرنسيين أسوأ، حتى أنّ وزيرين من الحكومة – برنار كوشنير وراما ياد – قاطعا حفلة العشاء الرسمي. إلاّ أنّ ذلك لم ينل شيئاً من عزيمة ساركوزي ولا من طموحه، إذ قال في اليوم التالي أمام الصحافيين: “أنا في صدد التوقيع على عقود بقيمة عشرة مليارات يورو”.
وعاد القذافي من حيث أتى، بعد تقديمه ما طاب له من عروض أزياء على شاشات التلفزة – في عاصمة الأزياء. ومرّت الشهور وأربع سنوات من دون أن تظهر المليارات التي وُعد بها ساركوزي، أو وعد نفسه بها، وكان يعوّل عليها لإيجاد ثلاثين ألف وظيفة في بلد يبلغ عدد العاطلين عن العمل فيه 10 في المئة. حتى “مشروعه الاستراتيجي “الاتحاد من أجل المتوسّط”، لم يلقَ أقلّ اهتمام من القذافي. والحقيقة لم يكن الوحيد الذي لم يستهوه هذا المشروع، فباستثناء الرئيس السابق، حسني مبارك، لم يبدِ حكام الدول المتوسطية كبير اهتمام به.
ونام ساركوزي على “الضيم” أربع سنوات ليستفيق ذات صباح على صياح ثوّار بنغازي، ويقرّر سريعاً أنه حانت الساعة للانتصار لمبدأ حقوق الإنسان، وكان ثمن هذا الانتصار سقوط نظام القذافي.